قربى البوادي
في الدبلوماسية لغتان: المعلن والمضمّن. كلاهما يفضي إلى غاية واحدة هي تحسين أو تمتين العلاقة بين فريقين. لكن إعلان العلاقة من خلال اللقاءات الشخصية بين القادة هو رغبة متبادلة في التأكيد على أن تلك العلاقة بلغت أعلى درجات الثقة والمودة.
واضح أن الرئيس الشرع تعمد أن تكون الرياض أول عاصمة يزورها. وواضح أيضاً أن الرياض تتوقع هذه الخطوة العاجلة في ضوء المتغيرات الكبرى التي تجاوزت نتائجها الأحوال والأوضاع الفردية، إلى الوضع الإقليمي وأبعاده الدولية.
العالم بأجمعه يراقب سوريا منذ سقوط النظام. والعالم كله يريد أن يعرف أي موقع تريد أن تختار في ذروة التحولات. وبدل أن نرى دمشق في «الشرق الأوسط الجديد»، رأيناها تعود مع أحمد الشرع إلى «الشرق الأوسط القديم». إلى يوم كانت العلاقة بين الدولتين، منذ أيام الملك عبد العزيز، أقرب إلى التوأمة، في السياسة والتجارة والتبادلات العائلية. وكانت «البادية» واحدة، تبدأ الواحدة حيث تنتهي الأخرى.
استمرت العلاقة على هذا المنوال يعتريها أحياناً بعض التوتر عندما يضرب سوريا شيء من عدم الاستقرار والانقلابات العسكرية. لكن حتى في عهد حافظ الأسد، حافظت العلاقة على توازن شديد في تجاذبات العالم العربي. وخلال حقبة طويلة كان هناك حلف ثلاثي غير معلن يجمع بين «القاهرة والرياض ودمشق»، يغني أحياناً عن الاتفاق العربي العام.
تغيرت هذه الحالة من حسن العلاقات بعد وصول بشار الأسد بقليل. في سرعة مذهلة قلب الرجل كل شيء. وراح يدمر علاقات دمشق مع الجميع في الداخل والخارج. وخصوصاً مع السعودية.
لا تحتاج عودة العلاقة الخاصة بين الرياض ودمشق أكثر من فتح الأبواب العالية. وقد فتح الأمير محمد بن سلمان البوابة الكبرى أمام الجار العتيق، والشريك المغيب، الذي يحاول ترميم علاقات سوريا، بدءاً بالشركاء الطبيعيين.
يشكل ما حدث في سوريا حدثاً هائلاً في كل الاتجاهات. الاتجاه الأول سوريا نفسها. الشرع يعيد رسم هويتها.
منازل وزلازل
كان من السهل النظر إلى تصريحات رئيس أميركا الجديد على أنها فصل آخر من تصفية القضية الفلسطينية بتوطين أهل غزة في مصر والأردن. لكن دونالد ترمب كان قد قال قبل ذلك، وهو يوزع أراضي العالم، ويضم البعض الآخر، إنه سوف يستعيد بنما قريباً، ومن ثم كندا، والبقية تأتي.
فما الدنيا إلا عقار يوزع على الناس، أو توزع الناس عليه. وما الدول والأوطان والهويات التاريخية إلا حديث خرافة يا أم عمرو. وكذلك العائلات والأملاك والحقوق والقلوب.
اختار ترمب لعملية النقل البشري أكثر الدول فيضاً باللاجئين: مصر والأردن. الأولى فيها 1.8 مليون سوري مسجل، والثانية 1.5 مليون لاجئ «رسمي»، أي أن الرقم الحقيقي أكبر من ذلك بكثير. كما أنه اختار، بشطحة قلم، دولتين محاصرتين بالمخاوف والأخطار، من ليبيا إلى الضفة الغربية. الغريب أن يطلب ترمب تحمل هذا العبء الرهيب من دولتين حليفتين للولايات المتحدة، ولهما موقعان أساسيان في استراتيجية العرب عامة.
هل هذه طلائع الشرق الأوسط الجديد؟ هل هذا شيء من «الوطن البديل»، الذي كنا نعتقد أنه مجرد تهويل يلوِّح به بين خضة وأخرى؟ إن المتحدث الآن هو رئيس أميركا، الرجل الذي يبعد المكسيكيين بالآلاف في قوافل. وهو أمر لم يحدث من قبل؛ فاللاجئون كانوا عادة يذهبون في الاتجاه الآخر. هل سوف يتغير الاتجاه مع ترمب في صورة دائمة؟
المشكلة مع الرجل أنه جدّي، ويعني ما يقول، في حين بدا أول الأمر كأنه يمزح بسبب غرابة مطالبه. فأي قضية فتح الآن إلى جانب بنما وكندا وغرينلاند، التي قال إن أهلها (75 ألفاً) متبرمون بالحياة في بلدهم، ويريدون الانضمام إلى أميركا. تخيل أن كل من تضايق من الحياة في بلده يحمله على كتفه، ويضعه في بلد آخر.
يطرح دونالد ترمب قضية من حجم نقل بعض غزة إلى سيناء والأردن. قضية من هذا النوع – إذا طُرحت – بحاجة إلى حكومات وبرلمانات، واستفتاءات، ومنظمات دولية. للرئيس الأميركي أسلوب آخر.
يُغبط الرئيس ترمب على رغبته في سرعة الإنجاز؛ فالمعروف أن الناس تلقى مشقة في الانتقال من منزل الى آخر.
الأرض «بتنقل وبتحكي عربي»
يحاول دونالد ترمب أن يعيد تركيب هذا العالم مثل لعبة «ليغو» للأطفال. وبالسهولة نفسها. مربع يذهب إلى الأردن. الثاني إلى سيناء. وأنت، المربع الثالث، إلى ألبانيا. هل تعرف أين تقع ألبانيا؟ ليس مهماً. شركات النقل تعرف.
ولكن كيف سوف تنتقي المرحَّلين: عائلات كاملة؟ الأبناء دون الأهل؟ العجزة دون الأصحاء؟ الأفضلية للذين يجيدون اللغة الألبانية؟ العالم كله ينتقل. جميع المهاجرين غير الشرعيين يرتعدون خوفاً، ويحاولون الهرب والاختباء. من المكسيك إلى السلفادور. هذا الرجل لا يمزح. يريد طرد الملايين، وتطهير أميركا من المرتكبين والمهربين ومخالفي القانون. هذا ما وعد به خلال حملته الانتخابية، وهذا ما ينفذه.
ولكنك تنقل شعوباً ودولاً من أوطان إلى غربة. أعرف. أعرف. هذه مسؤوليتهم. من قال لهم أن يُولدوا هنا؟ فليدفع كل فريق ثمن خطئه. ثم إن ألبانيا بلد جميل في قلب أوروبا، في محاذاة السحر الإيطالي. ثم إن الهدف من نقل مليونَي غزاوي من ديارهم إلى غيارهم، هو سلامتهم وراحتهم. ولكن، لكن، مليونا إنسان تحوّلهم مرة واحدة من مواطنين إلى غرباء، وتحوّل مليونَي غريب إلى مواطنين وأصحاب أرض! ألا تعتقد أن المسألة ليست بهذه السهولة؟ ثم إذا كان هذا هو الهدف السامي من نقل بلد إلى بلد؛ أي تأمين السعادة والسيادة لمشرّدي غزة؛ فإن لديّ، محبِّر هذه السطور، اقتراحاً أكثر بساطة وعملية. يقدر مسؤولون أن حجم الركام الذي سببته الغارات الإسرائيلية يبلغ حتى الآن 50 مليون طن. اطمروا البحر فتكون لكم غزة جديدة، صالحة للبناء والسكن. لماذا تعذبون أنفسكم بصعوبات الانتقال ومراسيمها وهوياتها وهندساتها وتكاليفها؟ ألا تكفي تكاليف الدهر وتصاريفه ومصاريفه؟
شكراً. لقد قام على الأقل من يتعاطف مع أهل غزة. بدل الانتقال للمرة الخامسة من الجنوب إلى الشمال، ومن الشمال إلى الجنوب، يدمّر الاثنان معاً، ويُردم بركامهما البحر الوسيع، ويعم السلام والرخاء عموماً مبهجاً.
وبالله لن أنهي هذا المقال دون أمرين: الأول أن أسجل براءة هذا الاقتراح باسمي، والثاني أن أدوّن إعجابي الشديد بالثراء المعرفي في جغرافيا العالم عند الرئيس ترمب: ضموا كندا. هاتوا بنما. خذوا غزة. لا تنسوا ألبانيا. خصوصاً في الربيع.
وبهذا ينطبق المثل القائل: «بلّطوا البحر». وإذا رُدم، يصبح باستطاعتكم البناء وتبليطه!
مفكرة القرية: كنز
سرى الخبر مثل عاصفة مكتومة: الأشقاء الأربعة (أبناء الأربعة، كما يُعرفون)، عثروا على كنز هائل في أرض المرج الملاصقة لأراضيهم. ولذلك، يحاولون شراءها بأي ثمن. لكنّ أصحاب الأرض الحقيقيين هاجروا إلى البرازيل منذ زمن. وآخر من رآهم، قال إنهم استقرّوا في أدغال الأمازون، وما عادوا يعرفون كيف يعيشون في الحواضر. ونسي الناس أمرهم إلى أن روى أحد «الأبناء الأربعة» لصديق له أنه سمع ذات ليلة صوت حفر وجزّ أعشاب، ورجالاً يتهامسون. حاول الاقتراب لمعرفة من يكونون، لكنهم عندما سمعوا صوت اقترابهم ذابوا في عتمة الليل.
في الليلة التالية، شكّلت مجموعة من الشبان فرقة معاول ومناجل، وتسلّلت إلى المكان المرصود. لكنها وجدت جماعة سبقتها، فتراجعت. إذن، إلى غدٍ.
في الغد، رسمت خطة تقضي بالتوجه باكراً مع الغياب أفراداً يجتمعون عند المكان المحدد. عندما بدأوا، صار كل واحد يلتقي باحثاً آخر سبقهم إلى الكنز. وكان على كل واحد أن يخترع حكاية تبرّر وجوده هناك.
من أجل التمويه، قرّر كل باحث تعليق التفتيش، والعودة بعد أسبوعين. وبعد أسبوعين تسلل كل واحد في هدوء، ليكتشف أن جميع رجال الضيعة قد سبقوه إلى موقع الكنز.
لم يعد أحد يفكّر في شيء سوى الكنز. وبسبب قرب الأراضي من بعضها، صار «أبناء الأربعة» يتظاهرون بالحراثة، أو بالزراعة في غير موعدها، ثم أقاموا بركة ضخمة تموّه تحركاتهم.
بعد عامين أو ثلاثة، شعر الجميع باليأس والملل. وكما بدأوا البحث واحداً بعد الآخر، توقفوا عنه الواحد بعد الآخر. لكنهم بدأوا عملية بحث من نوع مختلف: يريدون أن يعرفوا من هو ذلك اللعين الذي ضحك منهم جميعاً كل ذلك الوقت. وهذه أيضاً لم تعد ذات أهمية بعد حين.
مضت الضيعة في سبيلها. وذات يوم وصل إليها رجل قال إنه من البرازيل، وإن جده كان فلاناً. ورحّب الجميع به. وفي اليوم التالي أقاموا له عشاء تكريمياً. وألقى في الأحياء كلمة عاطفية قال فيها: إن أحواله المادية ساءت في البرازيل، فتذكّر أن جده كان يحدّثه دائماً عن قطعة أرض في الضيعة، جاء يبيعها.
سمير عطا الله:دروب مضاءة
منذ أن طُرح السؤال للمرة الأولى، يعرف طارحوه أن الجواب صعب، وفي أفضل الحالات متعدد: مَن أكثر أهمية: الفرد أم المجموعة؟ التبسيط لا يجدي. ولكن هل رأينا عبر التاريخ مجموعة شعراء تدعى «المتنبي»، أو «شكسبير»؟ بالنسبة إلى عالم الاجتماع هوارد غاردنر (هارفارد)، لا نقاش في الأمر. الفرد هو نبع العبقريات على أشكالها. وقد يكون مغالياً في قناعته، فهو يعتقد أن أعظم رجال التاريخ هو غاندي. وحجّته أن رجلاً مثل غاندي مهّد الطريق لظهور نيلسون مانديلا. الفرد الأعزل غاندي هو الذي قاد 400 مليون هندي إلى الاستقلال. ومن دونه ربما تمزقت الهند إلى ولايات، لا تزال حروبها مشتعلة إلى الآن.
ما هي الموسيقى؟ هي بضعة أسماء خالدة مرت في الزمان مرة واحدة: بيتهوفن، وموتسارت، وشتراوس. وليس الجماهير الألمانية. وما هو الفن في العالم إلا بضعة أسماء مرصوفة إلى جانب بعضها: مايكل أنجلو وبيكاسو ودافنشي؟!
الفرد يصنع الفرق. والمؤسف أنه يصنعه أحياناً للشر والعدم. يتساءل غاردنر: كم كان القرن العشرون سعيداً لولا هتلر وستالين وبول بوت؟! يضيف إلى رجال الخير المستشار الألماني الغربي كونراد أديناور، والزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف.
فرد واحد، أو أحياناً مجموعة صغيرة، تقدم للإنسانية تطوراً لا يقدّر بثمن. مارتن لوثر كينغ اختصر النضال ضد العنصرية عشرات السنين. لي كوان يو نقل سنغافورة ومعها آسيا من مستنقع إلى طليعة الأمم.
ما هو السر في هؤلاء السادة؟ الرؤية. الخطوة نحو المستقبل بسرعة المستقبل، لا بأدوات الماضي.
ما هو القاسم المشترك بين هؤلاء الرؤويين؟ العمران. والتقدم. والطمأنينة. جميعهم عملوا من أجل السلام وحققوه. لا ازدهار في الفوضى، ولا طمأنينة في الحروب. وكلمة السر واحدة: الرؤية. عُد إلى التاريخ تجد توقيع صاحب الرؤية على كل إنجاز. وتجد توقيع الخراب على قصار النظر في كل مكان.
الإنجاز إعجاز، والخراب أسهل الشرور. وراء كل منهما فرد ملهم أو معدم. هنيئاً للدول والشعوب التي تُرزق القادة الذين يحوّلون ديارهم إلى منارات ونماذج. قرأت لمسؤول عربي كبير أنه يريد ضم بلاده إلى رؤى مستقبلية عدة، أولها رؤية الأمير محمد بن سلمان. هذه المرة الأولى التي أجد مسؤولاً يتحدث بمثل هذا النبل وهذه الشجاعة. مُفرحة الدروب المضاءة.
مضى نصف قرن على غيابها ونحو قرن على ظهورها طفلة، ثم آنسة، ثم سيدة تُعرف بلقب «كوكب الشرق». كانت عصراً أو زمناً كاملاً. عصر له شعراؤه وموسيقيوه، وله خصوصاً، جمهوره الذي يخرج إلى حفلاتها بالآلاف، أو يتسمّر إلى الراديو بالملايين، ويوم غيابها، خرجت مصر بأربعة ملايين إنسان، وأكبر جنازة في تاريخها. تبكي رحيل «الست».
كان ذلك نهاية زمن الطرب العربي منذ بدايته في العصر العباسي. ولن تتكرر، أو تظهر «ست» أخرى خلال نصف قرن. ولن يصدح صوت يطلب من صاحبته أن تبقى نحو متر بعيدة عن الميكروفون لئلا تشقه. حنجرة قوتها 12000 هزة على مقياس الارتجاج (vibrometer).
لكن سرّ «الست» وسحرها لم يكونا في الطبقات الصوتية. كانا في عبقرية الحضور، وفي وقار العشق، وقد رفعت مرتبة المسرح الشعبي وطوّعت غناء القصيدة، وروّضت الآهات والتنهدات.
وماذا بعد؟ لا قبل ولا بعد. تغيّر زمنها، وتغيّرت أجيالها، وغادر الشعراء من متردم. لم يعد مألوفاً أن تغنّي سيدة طوال الليل، والناس تهتف. لم يعد مؤنساً أن يكون أعضاء الفرقة الموسيقية قد تجاوزوا السبعين. كل شيء لم يعد كما كان. أصبحت أغاني «الست» من كنوز «ماسبيرو» القديمة، قلة تعرف رياض السنباطي اليوم. وقلة تملك الوقت للاستماع إلى الأغاني الطويلة، والمسرح الملتهب حماساً.
هي حكاية الأزمان في كل مكان. الأجيال الجديدة في فرنسا لا تعرف شيئاً عن إديث بياف، وفي بريطانيا لا حضور لشارلي شابلن إلا في المتاحف. لكل زمن إيقاع. ليس فقط زمن أم كلثوم قد ذوى، بل ذوى معه زمن المبتكرين الذين صنعوه ورصّعوه. كم نحن، أهل الماضي، مدينون لسيدتنا «الست». كم فرحاً وكم طرباً وكم شجناً ملأت عروقنا، لكن العزيزة بعدت في الغياب، نحن بعدنا في السنين… ودارت الأيام، على جري عادتها.