… وللذين يتساءلون ما لنا في نتائج الانتخابات الألمانية؟ نلفتهم إلى أن في ألمانيا نحو 3 ملايين تركي، وما يفوق المليون سوري، وأعداداً كبيرة من العراقيين، والفلسطينيين، وسواهم من عرب ومسلمين. وهؤلاء هم الذين كانوا السبب الرئيسي في فوز اليمين المتطرف والسيدة أليس فيدل، زعيمة حزب «البديل» التي ضاعفت قوتها البرلمانية.
عبارة «اليمين المتطرف» لها وقع مقلق جداً في ألمانيا. فقد أوصل هذا اليمين إلى المستشارية أدولف هتلر ذات يوم. وكان اسم حزبه «النازيون». وقد حول أوروبا إلى أنقاض، ثم انتحر فوقها. وكان المناخ السياسي شبيهاً بما هو اليوم، والمشاعر حيال الغرباء أو المهاجرين تعصف في كل بيت، يضاف إلى أن كل ذلك وضع اقتصادي مترف.
كشفت الانتخابات ما هو معروف ومتوقع. والسيدة أليس فيدل هي مارين لوبن ألمانيا، التي لا تزال في الخامسة والأربعين. لكنها ليست محافظة، بل العكس تماماً، فهي تساكن سيدة من سريلانكا، تبنَّتا معاً ولدين. وتتحدَّر السيدة فيدل من وسط اجتماعي بورجوازي. وهي مصرفية سابقة، وتحمل شهادة دكتوراه في الاقتصاد. وقد رفعت في معركتها الانتخابية شعارات فاقعة العداء: «لا منقبات» ولا «حملة سكاكين». وكانت ألمانيا قد شهدت أحداثاً عدة من الطعن والدهس، أكثر مما وقع في أي بلد أوروبي آخر.
ودافعت المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، في مذكرات من 700 صفحة، عن قرارها قبول مليون لاجئ سوري فتحت لهم الأبواب خلال الانتفاضة على النظام السابق. غير أن المسألة لا تزال تثير جدلاً حاداً، وأكثر من يشعر بذلك المهاجرون أنفسهم؛ إذ أصبحت السلوكيات العنصرية أكثر حدة وظهوراً. طبعاً لم يجمع حزب السيدة فيدل من المقاعد ما يكفي لممارسة الحكم، الذي سيظل في يد الوسط التقليدي، بمساعدة بعض الأحزاب الصغيرة. لكن المثير للقلق هو الاتجاه العام. ولم يُخفِ أهل اليمين في أوروبا فرحهم بالتحول الذي لم يشهدوا مثله منذ الحرب. وهم يتقدمون في فرنسا بحيث يقتربون من عتبة السلطة. وقد توفي أخيراً مؤسس «الجبهة الوطنية»، جان ماري لوبن، الذي أطلق حركته قبل نصف قرن من غرفة صغيرة في ضواحي باريس. وفي سنواته الأخيرة كانت ابنته قد انشقت عن الحركة، وأعلنت طرده منها. فوز السيدة فيدل بعشرين في المائة من الأصوات ليس نبأً ساراً. على الأقل ليس لمحبي الاستقرار والهدوء.
سمير عطا الله:تلك هي الحكاية
«إيه الحكاية»، يقول المصريون مستفسرين، أو «إيه الخبر». اللبنانيون يتساءلون «شو القصة». أو تلك الصيغة التي لم يسبقهم إليها أحد: «شو في ما في». والجواب على ذلك «ما في شي. ليش سامع شي؟ شايف شي؟» وكل شعوب العالم تميل بصورة تلقائية إلى وضع الوحدات في صيغة السرد. ما كان في السابق «قصة» أصبح «خبراً». ما كان حرباً أصبح «ملحمة». وما كان «ملحمة» أصبح «تقريراً». ومن أجل الإثارة يجب أن تحول كل شيء إلى فصول، وتشويق، وملح وبهار، وضربة من هنا… وضربة من هناك.
اخترع اليوناني هوميروس فن الملحمة، وترك لمن بعده تطويرها. عليكم بالاختصار؛ فلم يعد لدى السامعين الكثير من الوقت. وعنترة أيضاً. ليس من الضروري أن يكون المسلسل 10 حلقات. 8 تكفي إذا عرفت كيف تجعل الحربة تدخل من ميل وترمى على الميل الآخر.
السرد يا عزيزي، السرد. ألم ترَ أن كل الفنون أصبحت مسلسلات وحلقات وحتى سنوات إذا كانت الأحداث تجري في الحارة؟ انتهى عصر الحلقة الواحدة. الناس تريد أن تسهر وتنتهي وتحرك مشاعرها. سألت زميلة شابة من اختار لها اسمها الذي يحمل نوعاً من الجرأة. قالت، وبراءة الأطفال في عينيها، إنه اسم بطلة أحد المسلسلات، أحبته أمها وهي حامل. أصل الحكاية، موسم ومسلسل وصدف مع نهاية الحلقات الحدث السعيد فأعطيت المولودة اسماً يليق بالحسن… ما دام. كما قال عمنا المتنبي:
زوِّدينا من حُسنِ وجهك ما دام
فحُسن الوجوه حالٌ تَحولُ
وصِلينا نَصلْكِ في هذه الدنيا
فإن المُقامَ فيها قليلُ
وإذا ما اعتبر حارس أوقاف المتنبي، السفير تركي الدخيل، أننا في هذه الاستعارة اعتدينا على مروجه التي يغرف منها كل أسبوع، فإنَّما ذلك من الحق العام وعلو المقام. وقد سبقه كثيرون في التنقل متمتعين في جنائن أبي الطيب، ليس أقلهم المعري في «معجز أحمد». فقد استطاع بصير المعرة أن يرى في ظلمة القصيد ما حجبته الأنوار عن سواه.
عبد الرحمن الراشد:تشييع «حزب الله»
«قلنا إنَّ عملكم الآن هو تفكيك (حزب الله)، وإن لم تقوموا بذلك فسنفعل نحن». هذا ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو موجّهاً كلامَه للبنانيين.
تشييع ودفن حسن نصر الله، أمس، ليس سوى تشييع لـ«حزب الله» نفسه، الذي قرَّر الإسرائيليون مصيرَه منذ هجوم «حماس» في أكتوبر (تشرين الأول) في عام 2023.
مرَّت خمسة أشهر على مقتله حتى تمكّن الحزب من تشييع قائده، نتيجة التدمير الذي ألحقته إسرائيل بقدراته ومواقعه، وبفعل هيمنتها المستمرة على لبنان من جنوبه إلى شماله.
تساؤلات عدة حول مستقبل الحزب، ومصير السلاح والمقاومة، ووضع لبنان من دونه، وكيف ستستطيع بقايا الحزب التكيف مع الأوضاع الداخلية والخارجية؟
يلمس الحزب أنَّ الضرر أصاب إيران هي الأخرى التي أصبحت تجد صعوبة في دعمه، مع هيمنة قوات نتنياهو على الفضاء اللبناني، وسقوط حليفها الأسد في دمشق.
في إحدى الندوات التي حضرتها قريباً، قال أحد المحللين الإيرانيين إن طهران الرسمية سعيدة بسقوط نظام الأسد. طبعاً، لم يقنعنا ذلك، فالأسد كان من أهم أصول إيران الاستراتيجية في الخارج. لكن كان المُحاضر يعني أن الحمل أصبح ثقيلاً على طهران. تمويل نظام الأسد ومنظومة «حزب الله»، وحركة «حماس»، والحوثي، مكلِّف عليها. وصار كل مشروع إمبراطورية آية الله في المنطقة في مهبّ الريح لسببين؛ عزم إسرائيل على مواجهته، والثاني ارتفاع تكاليفه بما لا يتناسب مع إمكانيات دولة كإيران؛ فقيرة اقتصادياً في الداخل، واستمرارها في تمويله قد يؤدي إلى انهيارها.
«حزب الله»، أغلى ثمناً من بقية الأصول الإيرانية الخارجيّة، يعيش على مساعداتها نحو مليون لبناني.
الخلاصة أنه لو لم يدمر نتنياهو مؤسسة «حزب الله» فإن مآل الحزب أن يضعف بسبب ضعف إيران، وقد ينتهي كما انتهت دول الاتحاد السوفياتي بعد انهياره، مثل ألمانيا الشرقية وألبانيا ورومانيا، وحتى اليمن الجنوبي والصومال، سلسلة من أنظمة محور موسكو ذابت سريعاً ، مثل الملح في الماء.
في داخل لبنان، «حزب الله» اختطف الطائفة الشيعية على مدار أربعة عقود، وسوق رواية تزعم أنه منحهم الكرامة وحماهم من التهميش، في حين أن الحقيقة أن الحزب وظّفهم اتباعاً لولاية الفقيه في طهران، وجعلهم عسكراً لمشروعه السياسي حتى صاروا رهينة لحروبه. هذا موضوع يستحق النقاش في حديث لاحق.
المقاتلات الإسرائيلية حضرت تشييع نصر الله، وخليفته هاشم صفي الدين، في تذكير للحزب بأنه لن يسمح له بالعودة لنشاطه السابق. وهذا الإصرار الإسرائيلي على مراقبة لبنان والتدخل العسكري لمنع نشاطاته، سيجبر إيران على القبول بالواقع الجديد، والأرجح أن يتم تأطير خروج لبنان من الخريطة الإيرانية، ضمن المفاوضات المحتملة بين طهران وواشنطن، مع جملة قضايا إقليمية، والبرنامج النووي الإيراني. إسرائيل اتخذت قراراً تقول لا رجعة فيه، لن تسمح بوجود قوة عسكرية على حدودها تهدد أمنها، وكرَّر نتنياهو إصراره على إضعافه داخل لبنان.
إذا وضعنا بعض العبارات العنترية جانباً، نلمس أن الحزب يتقبل الواقع الجديد، حيث قال أمينه العام نعيم قاسم إنه سيواجه إسرائيل وطردها عبر تحرك الدولة دبلوماسياً. وتحدَّث أيضاً عن تراجعه عن سياساته السابقة، معلناً أن الحزب سيعمل تحت سقف اتفاق الطائف.