نجيب محفوظ في اليمن
ربما يعرف الكثير أن الأديب الكبير نجيب محفوظ الذي يعشق القاهرة وحواريها، وعاش جُلّ عمره بين أزقتها ينسج حكاياتها، ويرسم نبضها؛ كان لا يحب السفر، ولا المظاهر الرسمية، لدرجة أنه أوفد ابنتيه لتسلم جائزة نوبل نيابة عنه عام 1988، واستمر يومها في جدوله الروتيني العادي في الكتابة والجلوس إلى الأصدقاء في القهوة.
لكن ما لا يعرفه إلا القليل أنه قام بثلاث زيارات خارج مصر في حياته… إحداهن كانت إلى اليمن!
وليس من المستغرب إذن؛ أن تكون هذه الزيارات دون رغبته، فالأولى كانت إلى يوغسلافيا عام 1951، بأمر من الرئيس جمال عبد الناصر مشاركاً في وفد ثقافي، لم يستطع التنصل منها، كما قال في أحد حواراته أنه سافر «حباً وخوفاً» من عبد الناصر. والثالثة كانت إلى لندن مضطراً للعلاج عام 1989.
أما الزيارة الأغرب في حياته كلها فكانت إلى اليمن عام 1963، في شهر يوليو (تموز)، عقب الثورة اليمنية الشهيرة 26 سبتمبر (أيلول) 1962، التي دعمتها مصر وعبد الناصر دعماً كبيراً.
وكانت هذه الزيارة أيضاً «برغبة» عسكرية من المشير عبد الحكيم عامر. إذ سافر وفد من الأدباء الكبار هم: نجيب محفوظ، ويوسف السباعي، ومهدي علام،و أنيس منصور، وصالح جودت، ومحمود حسن إسماعيل، إلى اليمن ضمن جهود ورعاية مصر للجمهورية الناشئة حينها؛ إذ كانت تُرسل عدداً من الوفود والشخصيات في تخصصات مختلفة غير العسكرية لتأسيس وتنشئة بعض المؤسسات.
زيارة هذا الوفد إلى اليمن استغرقت ثلاثة أيام فقط، لكنها طافت بمدن كثيرة، إذ قدم الوفد إلى الحديدة عبر البحر بعد رحلة مضنية استغرقت أسبوعاً، ومن الحديدة إلى صنعاء ثم مأرب، وشاهد نجيب محفوظ ومرافقوه في مأرب عرش الملكة السبئية بلقيس وآثارها، ثم عادوا إلى صنعاء ومنها إلى تعز وطافوا بأسواقها، ومن ثم الرجوع إلى الحديدة في طريق العودة.
وقد دوّن الأديب نجيب محفوظ هذه الزيارة بطريقته السردية بشيء من الخيال الأدبي في مجموعته القصصية «تحت المظلة» الصادرة عام 1969، بعنوان «ثلاثة أيام في اليمن»، على لسان شخصيتين رمزيتين؛ الأديب والجندي، من خلالهما نقل محفوظ جلّ ما رآه وسمعه عن اليمن، ومن يقرأها يحس بشكل واقعي كيف استطاع الأديب الكبير نقل هذه الرحلة بطريقته الساحرة التي وصفت الإنسان اليمني ومعاناته، والبيئة اليمنية التي شدته بتنوعها وجمال طبيعتها الآسرة.
لكن الأديب نجيب محفوظ ربما لم يكتب عن هذه الزيارة بشكل واقعي خارج الأدب، أو على طريقة المذكرات اليومية كما كتب عن زيارته إلى يوغسلافيا، غير أننا نجد بعضاً من انطباعاته المختصرة حول هذه الزيارة في أحاديثه مع يوسف القعيد، نُشرت في الأهرام قديماً، كما تضمنها كتاب القعيد «نجيب محفوظ إن حكى».
ولعل كل إنتاج محفوظ يدور في المكان الثابت له والفضاء السردي القاهرة، عدا هذه القصة التي كتبها عن اليمن والمدن التي زارها فيها، وقد أدهشه جبل صبر الذي يحتضن المدينة؛ حيث قال «وجدت نفسى في الجنة. لم أكن أتصور كل هذا الجمال. جبل كله خضرة وورد وأزهار وفوقه مبنى. وقالوا إن هذا المبنى هو الذي احتجز فيه الإمام أولاد رؤساء القبائل، الشيء التعس الوحيد كان المواطن اليمني الذي كان مثالاً للفقر».
على أن ذاكرة الأديب محفوظ لم تغفل اليمن، ومأساته في تلك الفترة فهو في إحدى رواياته «الباقي من الزمن ساعة» صدرت عام 1982؛ يذكر اليمن على لسان إحدى شخصيات الرواية:
«أسمعت ما يُقال عن أغنية أم كلثوم أسيبك للزمن!
يقال إن الأصل أسيبك لليمن!».
وفي اليمن؛ في ظرف الزيارة القصيرة هذه ربما لم يُتح لمحفوظ أن يقابل كثيراً من نخبها في تلك الفترة، باستثناء بعض الشعراء والأدباء الذين لم يتذكرهم جيداً، كما حضر بعض فعالياتهم بصنعاء وتعز، وحتى أنه أيضاً لم يستطع لقاء ابن أخته، الذي كان منتدباً طبياً ضمن الجيش المصري لمساندة الجيش اليمني الذي يحارب أنصار الإمام الذي أسقطته الثورة حينها، وقريبه هذا أصيب في اليمن، ومن الطريف أن هذا الوفد ومعهم نجيب محفوظ التقوا الرئيس عبد الله السلال حينها ويحكي عن ذلك اللقاء بقوله:
«قابلناه، قال لنا: عفواً لتأخري لأنني قادم من ميدان القتال، فرد عليه واحدٌ قائلاً: إنه قادم من بيته، بالتحديد من غرفة نومه!».
وعندما سئل نجيب محفوظ عن رؤيته في السلال قال «لم يكن يملأ العين» لبساطته.
وعن عادات اليمنيين وظواهرهم لاحظ محفوظ ظاهرة تناول «القات»، النبات الذي يتعاطاه أغلب اليمنيين من بعد الظهيرة، يتحدث عن ذلك بقوله «كلهم يستخدمون القات. كنا في صنعاء ووجدنا بقالاً. وأردنا شراء شيء. وجدنا الرجل نائماً. لا يدرك شيئاً مما يدور حوله».
ويَذكر أن قائد الجيش المصري هناك اشتكى من الوزراء اليمنيين؛ لأنهم يُقيِتون ويعطلونه عن عمله.
ومع ذلك يتحدث محفوظ عن اليمنيين بقوله «الشعب اليمنى شعلة من النشاط والذكاء، لكن القات (مِخَسَّره) الحياة بكل ما فيها». لكنه يؤكد مع ذلك أنه لم تتح له الفرصة ليتعرف على الشخصية اليمنية بشكل كافٍ؛ بسبب قصر الزيارة؛ لذلك أشار إلى أنه لم يدرس الشخصية اليمنية، ولم يحتك بها بشكلٍ جيد. ولعل محفوظ قد لاحظ كيف كانت أوضاع اليمن حينها بلا فنون ولا تلفزيون ولا أي من أدوات العصر الحديث،
ومع ذلك فقد عاد محفوظ من اليمن بشال لزوجته هدية وربما ملابس لابنته وبعض الهدايا كما يتذكر.
ولا ينسى محفوظ مع ذلك أن يسجل رؤيته لليمن واليمنيين، فهم «رجال أشداء حقاً، من سلالة غزت العالم ذات يوم، وقوة مدخرة للخير مستقبلاً»، كما لا يغفل أصالة هذا البلد وفضله ومكانته التاريخية للعرب، ويشير على سبيل المثال إلى هجرات اليمنيين إلى مصر «تذكروا أن وطننا تلقى موجات في إثر موجات من مهاجري هذا البلد، لا يبعد أن نصادف أجداداً وأصولاً ونحن لا ندري».
ولقد ألِف محفوظ ورفاقه أرواح اليمنيين عندما جلسوا إليهم وتحدثوا معهم، وقد أشادوا بشهامتهم وشجاعتهم وكرمهم، ولقد رأوا أن هذا البلد الأصيل به من النبوغ والثقافة، لكن سُدّت أمام أبنائه منافذ الضوء «لقد أغلقت اليمن الأبواب على نفسها ألف سنة فلم يختفِ منها الشّعر، لكنّ المشكلة الحقيقية هي متى يغزوها العِلم؟!».
من الطريف أيضاً، في صنعاء التقى محفوظ فريقاً مصرياً كان يعمل على أوّل ميزانيّة لليمن حينها، وإقامة نظامٍ مالي كأساس لحياتها الاقتصاديّة. يقول «وقد دعوني لزيارة جناحهم في القصر فذهبت معهم وأنا أداعبهم قائلاً (إذن فأنتم أوّل من بشّر بالروتين في أرض اليمن)».
يبقى الحديث عن اليمن وهذه الرحلة الأثيرة للأديب الكبير سحر خاص، يمكن لمن يريد أن يقرأ عنها، وبسردٍ أخاذ، أن يعود للقصة المذكورة آنفاً، وربما تكشف الأيام عن مادة أو أحاديث كتبها أو قالها الأديب الكبير عن اليمن لم تنل طريقاً للنشر أو الانتشار.
– كاتب يمني
أخبار ذات صلة
«التانكي»… المشفى بوصفها بنية مكانية
تواصل الروائية العراقية المغتربة عالية ممدوح في روايتها الأخيرة «التانكي»، التي وصلت إلى القائمة القصيرة في مسابقة البوكر للرواية العربية لعام 2019، الانطلاق من بنية مكانية صغيرة، لكنها مؤثرة وفاعلة، هي بنية المشفى أو المركز الصحي، حيث نجد بطلة الرواية عفاف ترقد في مشفى في باريس.
وهذا التواتر على اختيار المشفى بنية مكانية روائية في 3 روايات من روايات عالية ممدوح، هي: «التشهي» و«المحبوبات» و«التانكي» يدفعنا للحديث عن تشكل ثلاثية روائية في ثلاث روايات من روايات عالية ممدوح، تتمحور حول بنية المكان الصغير المتمثل في المشفى الطبي، حيث تدور معظم الأحداث الروائية حول هذا المشفى أو داخله، وتستقطب شخصية المريض اهتمام السرد والحدث الروائي برمته. كما أن هذه الروايات لا تتوقف عند الحالة المرضية للمريض فقط، بل تتعالق بطريقة واضحة بالأوضاع الاجتماعية والسياسية في العراق من خلال العقود الأربعة الأخيرة، مع تركيز خاص على فترة حكم صدام حسين والسنوات العشر الأولى التي أعقبت الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003. وتبدو الحالة المرضية في أغلب الروايات صدى سيكولوجياً وروحياً لتدهور أوضاع الفرد العراقي، وغياب الحريات وتدمير القيم المدنية واستشراء الاستبداد والعنف والتوتر الطائفي في العراق خلال هذه الفترة.
في هذه الرواية تكشف الروائية عالية ممدوح أيضاً عن نزعة نسوية Feminist واضحة من خلال جرأتها في كسر التابوات العرفية والاجتماعية والسياسية، ودفاعها عن حرية المرأة في خياراتها الثقافية والأيروسية، وهي كما يبدو تحاول أن تكتب تاريخاً للمرأة متحرراً من هيمنة المنظور الذكوري المتسلط على الثقافة، وكأنها أرادت أن تطبق دعوة هيلين سيكسو للنساء «بالتفكير في تاريخهن على نحو مختلف وأنه لا بد للنساء أن يخترعن تاريخاً آخر يكون خارج روايات السلطة واللامساواة والاضطهاد. (عالية ممدوح جريدة «الرياض» بالسعودية، 20 ديسمبر «كانون الأول»، 2014).
ويخيل لي أن منحى الروائية عالية ممدوح لاختيار المشفى بنية مكانية غير بعيد عن أجواء رواية «المريض الإنجليزي» The English Patient الصادرة عام 1992، التي تحولت إلى فيلم سينمائي ناجح عام 1996، إذْ تُستهل هذه الرواية بمشهد الممرضة الكندية الشابة (هانا)، وهي تقوم على رعاية شخص محترق كلياً بسبب سقوط طائرته خلال الحرب العالمية الثانية، في فيلا مخربة في الريف الإيطالي مجاورة لأحد الأديرة الإيطالية، حيث تكتشف أن المريض فقد ذاكرته، ونسي اسمه، وراح يهذي، ويتحدث عن وقائع وقصص غير مترابطة. ولأن الممرضة تجهل اسمه فقد أطلقت عليه اسم «المريض الإنجليزي».
ويبدو أن هذه البنية المكانية، وأعني بها بنية المشفى، راحت تستهوي عدداً من الروائيين العالميين كما نجد ذلك في رواية «المريضة الصامتة» Silent Patient تأليف ألكس ميكايليديس، الصادرة حديثاً، وهي عن رسامة معروفة هي اليشا بيرتسون، تطلق النار على زوجها في ظرف غامض، وترفض بعدها الحديث، حيث تمضي ست سنوات في السجن دون أن تنطق بكلمة، حيث يتدخل بعدها معالج نفسي فيقرر أن يخوض تجربة استنطاقها وإخراجها من عزلتها.
في ثلاثية عالية ممدوح ذات البؤر المكانية المشتركة المتمثلة في المشفى، نجد فيضاً من المشاعر الإنسانية المكبوتة، ومعاناة كبيرة، من جانب المرأة في الغالب، وهلوسات ونحيب وصرخات صامتة تتطلب تعاطفاً إنسانياً خاصاً من لدن القارئ، الذي تبدو له مثل هذه الروايات وهي تجمع بين التحليل النفسي، والبحث البوليسي المنقب عن المسكوت عنه، والمغيب في سيرة المريض الحاضر – الغائب. ونجد في هذه الروايات الثلاث حضوراً ضاغطاً وأحياناً مدمراً للواقع السياسي والاجتماعي الخارجي على الحالة النفسية السريرية للمرضى.
وتثير بنية المشفى، التي وجدنا لها أمثلة في الرواية العربية إلى ثنائية الداخل – الخارج التي تحدث عنها باشلار في كتاب «شعرية الفضاء» Poetics of Space الذي ترجمه غالب هلسا إلى «جماليات المكان»، كما أن هذه البنية تحيل أيضاً إلى ثنائية فلسفية كبيرة هي ثنائية (الهنا – والهناك). (فالهنا) هو بنية المشفى، أما (الهناك) فتشير إلى الأسرة أو المدينة أو العالم الخارجي. إذ إن المشفى يمثل من الجانب الآخر (الداخل) بوصفه بنية مكانية مغلقة ومحدودة وضيقة، في مقابل (الخارج) الذي يمثل بيت الأسرة والمدينة والفضاء اللامحدود، وهو مفتوح ومتسع ولا نهائي (جماليات المكان، غاستون باشلار، ترجمة غالب هلسا، بيروت، ص 192).
وقد فحص الفيلسوف ميشيل فوكو بنية المشفى أو العيادة الطبية دلالة بنية المشفى أو ما يسميها بالعيادة الطبية في المجتمع المعاصر، إذ يرى (فوكو) أن نقل المريض من بيئته الطبيعية، أي البيت، والأسرة، إلى المشفى، يجعل المريض تحت تأثير سلطة جديدة. إذْ كان الجسد المريض يلتزم في العادة بيته، وكانت مهمة الأسرة احتواءه والعناية به، إلا أنه مع ظهور المستشفى كبينة حضارية جديدة جرى استبدال الأسرة بالمستشفى.
ويخيل لنا أن انعطاف الروائيين نحو بنية المشفى في الرواية الحداثية، يعود إلى جملة عوامل، منها انتقال الروائي من مكانية الأسرة، في «الدراما الأسرة» حيث تتمحور الصراعات والإشكاليات داخل أسرة معينة، إلى مكانية المشفى، في الرواية الحديثة بما توفره من أجواء من التواصل الإنساني والحميمية بين مجموعة أفراد يتحلقون حول مريض ما، في محاولة للتعبير عن التعاطف الإنساني، وفي الوقت ذاته لتحقيق تواصل تفاعلي بين (الخارج) المتمثل بالأسرة وفضائها المفتوح و(الداخل) المتمثل في المشفى، بوصفه بنية مغلقة ومحدودة، شبيهة إلى حد كبير بالسجن أو القوقعة التي تحيط بمحدودية الداخل – المشفى.
وفي استقرائي المستقبلي، أعتقد أن البؤرة المكانية للمشفى، التي كانت عالية ممدوح رائدة بالتبشير بها، ستكون بؤرة مركزية في روايات ما بعد جائحة كورونا، وذلك للدور الكبير الذي لعبته في حياة الناس بعد حالات الإغلاق والحظر في حياة المجتمعات البشرية. وستولد من رحم هذه البنية المكانية المولدة شخصيات وحبكات وثيمات وبنيات جديدة، دون أن نفترض غياب البنيات المكانية والزمانية الأخرى.
وإذا ما عدنا إلى رواية عالية ممدوح، فسوف نجدها تركز أساساً على بنية المشفى – الداخل الذي يفترض أن ترقد فيه الفنانة التشكيلية العراقية عفاف، التي اختفت أو ضاعت بين المصحات والمشافي في باريس، مما دفع بأسرتها بصورة جماعية لتحشيد مجهوداتها للبحث عنها، ومعرفة سبب انقطاع أخبارها عنهم. وبهذا فإن بنية الداخل – المشفى هي التي تجذب إليها بنية الخارج – الأسرة والمدينة بصفتها بنية جاذبة Centrifugal. ولكن علينا الاستدراك هنا إلى أن رواية «التانكي» قد كشفت عن بنيات مكانية بغدادية أليفة منها دار العائلة في حي الصليخ بالأعظمية ببغداد وامتداداتها إلى بيت الطفولة في الوزيرية، بوصفه المكان الأليف، لدى بطلة الرواية (عفاف).
ومن الجانب الآخر، يمكن أن نلاحظ أن (الهنا) المتمثل بالمشفى هو الذي يستحضر (الهناك) إلى فخ الحاضر، بعد أن كانت عفاف قبيل رقودها في المستشفى في باريس تدرك أنها كانت بين – بين، أي بين هنا وهناك في آنٍ واحد:
ففي حوار لها تخاطب المهندس المعماري معاذ الآلوسي، مصمم المكعب قائلة:
«أنا مادة خام موجودة، وأتحرك ما بين هنا، أو هناك، الأرض والسماء» (ص 48).
إذ نجد أفراد أسرة (أيوب آل)، وقد اجتمعوا جميعاً، وكأنهم يلتقطون صورة تذكارية مشتركة لطاقم الفيلم ويعلنون بصوت جماعي، عبر ضمير الجماعة (نحن) عن عزمهم على البحث عن ابنتهم «عفاف» التي غادرت العراق إلى باريس للدراسة عام 1979، كما ستكتشف لاحقاً، أنهم قد خولوا السيد صميم بمهمة متابعة، قضيتها، وجمع المعلومات الضرورية التي أدت إلى تدهور حالتها النفسية، والاتصال بالدكتور (كارل فالينو) الذي كان يشرف على علاجها النفسي في مشفاه في باريس قبل أن تغيب وتنقطع أخبارها.
وهكذا يضطلع السيد صميم بدور الراوي الرئيس للرواية، فضلاً عن الرواة الآخرين، لأنه مخول قانونياً من أفراد أسرة آل أيوب بجمع كل البيانات الضرورية والاتصال بالأشخاص ذوي العلاقة وتدوين شهاداتهم.
وتتضح الطبيعة الميتا سردية، والبوليفونية (تعدد الأصوات) في كل النسيج الروائي من خلال قصدية الكتابة والتدوين، واستخدام الكاميرا.
وتستمر المؤلفة في الحركة السردية الأولى من حبكة الرواية الأولى التي استغرقت أربعة فصول والتي تمثل الصعود نحو الذروة Climax، في التمهيد في انتظار استجابة الدكتور فالينو الذي بدأ بمعالجة الآنسة عفاف منذ عام 1986 في عيادته الخاصة بباريس: إذ يبدأ الدكتور (كارل فالينو) في الفصل الخامس من الرواية، وهي الحركة السردية الثانية في الحبكة الروائية بالرد على تساؤلات أسرة (عفاف) التي تمثل كما يخيل للقارئ بداية انحسار الذروة الروائية، لكننا سنكتشف لاحقاً أن الذروة الروائية تستمر في التصاعد حتى النهاية، لتشكل نصاً مفتوحاً على تأويلات لا نهائية.
وتتعامل الرواية مع التاريخ بحذر خوفاً من تزويره من قبل «ثعالب» التاريخ: «أظن ليس جميع ما نقرأه أو نحصل عليه من معلومات يبقى فوق مستوى الشبهات، ستبقى الثعالب، وهي تسرد أحداث التاريخ تزور وتلفق». (ص 25).
ولذا فهي تعمد إلى تقديم قراءتها الخاصة للمدونة التاريخية، وربما محاولة كتابة تاريخ اجتماعي وحضاري بديل انطلاقاً من منظورات ما بعد الحداثة والنزعة النسوية.
– ناقد عراقي