في الأشهر الأولى للحظر، وجد الكثير من الناس أنفسهم يتجهون، تحت الحظر المنزلي، إلى مصادر غير عادية لتخفف عنهم: عروض حاكم ولاية نيويورك أندرو كوومو على «باور بوينت»، وعمل الخبز (لا سيما، ولأسباب غير واضحة، «الساوردو»)، ورواية «الحرب والسلام» لليو تولستوي ذات 1.200 صفحة حول عصر نابليون في روسيا.
كما هو متوقع ربما وجد القراء أنفسهم، وهم يتجمعون على الإنترنت حول هاشتاغ #TolstoyTogether (#تولستوي معاً)، منجذبين إلى كتاب حول بلاد تعاني من الترقب والناس العاديون فيها يخضعون لأمزجة زئبقية لقادة سياسيين عاجزين. على الرغم من قوتها الأدبية، وثقل وزنها (يشار عادة إلى الناحية الأخيرة لتفسير تحول الكتاب إلى ترويح مثالي عن النفس وسط جائحة)، بدت لي «الحرب والسلام» ليست متطرفة بما يكفي للحظة الحاضرة، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار المساحة العريضة لفكر تولستوي الاجتماعي. في الأيام الأولى للجائحة، وجدت نفسي أكثر انجذاباً إلى «موت إيفان إليتش» (1886)، أقصوصة تولستوي حول موظف بلاط ثري وطموح يستسلم لمرض يعجز عن فهمه الأطباء؛ يجد إليتش في المرض وضوحاً – يدرك إلى أي درجة مجتمعه قائم على تقدير الأرباح أكثر من البشر.
كان تولستوي منجذباً للباحثين، للشخصيات الواقعة باستمرار في أزمة روحية؛ وصفهم جورج أورويل بالأشخاص الذين «يصارعون لصنع أرواحهم». تولستوي بالفعل رأى حالات طارئة، سواء كانت شخصية أو اجتماعية، بوصفها انقطاعات ضرورية يمكنها أن تشعل مساءلات أعمق للمجتمع والمعتقدات التي تدعمه. في مذكراته «اعتراف» (1882)، التي تسجل عودة وعيه الروحي، وصف تولستوي شعوره كما لو أن الأرض قد انهارت. فليس غريباً إذن أن يجد القراء ما يدفعهم من جديد لقراءته في وقت ألهمت فيه التفاوتات العرقية والاقتصادية، التي بينها «كوفيد 19»، وما ارتكب البوليس من قتل، أعداداً غير مسبوقة من الناس لأن يسائلوا بعض الأساطير المؤسِّسة التي قامت عليها هذه البلاد. بدعوات لإيقاف الدعم عن البوليس، بدأ الكثيرون يسألون، للمرة الأولى في حياتهم، ليس عن كيفية عمل المؤسسات فحسب، وإنما أيضاً عما إذا كان ينبغي لها أن توجد أصلاً.
أحد باحثي تولستوي ممن وجدوا أنفسهم على طريق مشابهة، هو إيفان فاسيلييفتش، بطل القصة القصيرة «بعد الحفلة» (1903). إيفان أحد شباب المجتمع، ويقع في حب ابنة كولونيل، ثم يخطط للانضمام للجيش، لولا ما يحدث أثناء قيامه بالمشي ذات صباح. كان قد أمضى الليلة السابقة في حفلة في المدينة يرقص مع الابنة، وهي شابة نحيلة جميلة اسمها فارينكا. يقول إيفان متأملاً: «مع أنني أحب الشمبانيا لم أشرب، لأنني، بدون أي نبيذ، ثمل بالحب». غير أن إيفان ثمل أيضاً بحب والد فارينكا، وهو رجل عليه سيماء اللطف والتهذيب، يلبس، كما يلاحظ إيفان، حذاءً بسيطاً في الحفلة لأنه يفضل أن ينفق ما يفيض من ماله على ابنته. بعد الحفلة، يعود إيفان إلى بيته، ولكنه مسحور بالحب إلى حد عدم القدرة على النوم.
بدلاً من النوم يقرر إيفان أن يتمشى في شوارع مملوءة بالثلوج باتجاه منزل فارينكا، ولكنه حين يصل يجد مشهداً يوقعه في حيرة شديدة: «جنود بملابس عسكرية سوداء يقفون في صفين متواجهين، يمسكون ببنادقهم إلى جانبهم دون حراك. خلفهم يقف قارع الطبل وعازف الناي، يكررون النغمة الحادة ذاتها». إنه قصاص عسكري والمتهم، ضابط تتري شاب (كان التتار أقلية إثنية في روسيا) يتعرض للعقاب بسبب الهرب من الخدمة. ينظر إيفان، متجمداً وهو يرى جسد الشاب ينزف: «كان جسده كله يضطرب، قدماه تضرب مياه الثلوج الذائبة، والشاب المعاقب يتحرك باتجاهي تحت وابل من اللكمات». يرى إيفان أن الكولونيل الذي يقود المسيرة ليس سوى والد فارينكا، الرجل الذي كان لساعات قليلة خلت يظنه رجلاً محباً وعطوفاً. يهرب إيفان محاولاً دون جدوى أن ينسى ما شاهده للتو. لكن لا فائدة: يسمع إذ يحاول النوم استجداء الضابط: «الرحمة يا إخوتي». يقرر إيفان ألا ينضم للجيش، متسائلاً عما إذا كان من الممكن له أن ينتمي إلى مجتمع لا يُسمح فيه بعنف كهذا فحسب، وإنما تقره الحكومة أيضاً.
كُتبت قصة «بعد الحفلة» في الفترة التي يسميها الدارسون مرحلة ما بعد التحول الديني لدى تولستوي، المرحلة التي ابتدأت حوالي 1879 عندما بدأ يلتفت بعيداً عن الرواية، ويركز على الممارسات السياسية لمعتقده المسيحي (التي تمظهرت في نوع من الفوضوية/ أناركي). أثناء تلك الفترة، التي شكلت حوالي الثلاثة عقود الأخيرة من حياته، كتب تولستوي أبحاثاً ومقالات قوية تدعو لإلغاء الملكية الشخصية والدولة وإنهاء الخدمة العسكرية.
آراء تولستوي، لا سيما تحريضه القوي ضد العنف المدعوم من قبل الدولة، أثار غضب المسؤولين الذين وضعوا الكاتب نتيجة لذلك تحت رقابة البوليس شبه الدائمة. أعماله الأخيرة منعتها الرقابة الروسية، وتوفرت في المقام الأول خارج روسيا عن طريق الترجمة. بل إن موقفه المعارض للحرب ذكر على أنه سبب في حرمانه من جائزة «نوبل» في الأدب. رفض سكرتير الأكاديمية السويدية ترشيحه لأسباب منها أنه بمواعظه السلمية «أنكر حق الأفراد والشعوب في الدفاع عن نفسها».
تنتمي «بعد الحفلة» في الواقع إلى فصل متأخر من نقد كان يغلي لفترة طويلة وجهه تولستوي ضد عنف الدولة. كتب في مذكراته، حين كان جندياً يحارب في القوقاز، وبعد ذلك في القرم، عن مشاهد مزعجة للعنف شاهدها عن قرب. كان المقصود من «الحرب والسلام» أن تكون، من عدة نواحٍ، تصحيحاً للتواريخ الشعبية والحكايات المتخيلة حول الحرب التي مجدت المعركة؛ أظهر تولستوي الحرب بدلاً من ذلك على أنها مشتِّتة، فوضوية، ومهينة. تحولت تلك الآراء فيما بعد إلى نقد واسع لاستعمال العنف الذي رأى أنه يؤدي للحفاظ على النظام الاجتماعي الذي يفيد الطبقات الغنية والحاكمة.
كتب فيما بعد أن «العنف لم يعد يعتمد على الاعتقاد بفائدته العملية، وإنما على حقيقة أنه موجود منذ زمن بعيد، وأن الذي ينظمه هم الطبقات الحاكمة التي تستفيد منه». آراء تولستوي المتأخرة عُدت خطرة بشكل خاص لأنه، جزئياً، لم يكن يطالب بمجرد الإصلاح، وإنما بإلغاء المؤسسات التي يحفظها ويقودها استعمالُ القوة.
كتب رتشارد غوستافسون، مؤلف «تولستوي: مقيم وغريب» (1986)، أنه بالنسبة لتولستوي كان معنى اللاعنف «رفض القسر من حيث هو غراء الكومنولث». طلب تولستوي أن نتبنى أنماطاً من الحياة الاجتماعية بدلاً من ذلك، أنماطاً متجذرة في الحب والأخوة والدعم المتبادل. لربما أن الدعوات التي نسمعها هذه الأيام لإيقاف تمويل البوليس، أو إلغاء أقسامه قد تسمع أيضاً بطريقة مشابهة – بوصفها دعوات للحب. الناشطون الذين يطالبون بتجريد أقسام البوليس من الدعم يلحون على أن يعاد توزيع الأموال نفسها لتصل منظمات تدعم سياسات تفيد الفقراء، المرضى العقليين وأولئك الذين يفتقرون إلى السكن الآمن.
نداء «الرحمة يا أخوتي» سيلاحق إيفان فاسيلييفتش بقية حياته مثلما تلاحقنا اليوم توسلات للتنفس وللألم. علينا أن نستجيب لتلك التوسلات بالحب الذي يذكرنا تولستوي بأنه يعني اقتلاع ما هو ضد الحب.
– عن «نيويورك تايمز»،
25 يونيو (حزيران)، 2020.
والكاتبة تحمل درجة الدكتوراه
في الأدب الروسي
من جامعة «برنستون» الأميركية
أخبار ذات صلة
ما الذي يجعلنا غير قادرين على تذوق عمل أدبي أو فني، رغم أنه يبدو مستوفياً الشروط والقواعد. نقرأ رواية قوية في لغتها، بارعة في رسم ملامح الشخصيات، متقنة في الحبكة، لكننا لا نشعر بأي انفعال بعد الانتهاء منها. نطالع لوحة تشكيلية تشارف تخوم الحداثة، في اللون ومعالجة السطح وتوزيع الظل والضوء، لكننا نعبرها سريعاً دون أن تؤثر فينا. نستمع إلى مقطوعة موسيقية يؤديها عازفون بارعون لكنها لا تترك فينا أثر… في كل هذه المواقف يكون التساؤل الحائر: لماذا لم نصب بالنشوة، ولم نستمتع بالعمل؟
الإجابة يسوقها الشاعر والمسرحي والموسيقي الإسباني المعروف فيديريكو غارثيا لوركا، الذي تم إعدامه على يد قوات الجنرال فرانكو الفاشية في 19 أغسطس (آب) 1936، عن عمر لم يتجاوز 38 عاماً، لكنه أصبح واحداً من أهم أدباء القرن العشرين… إجابة لوركا جاءت عبر عدد من المحاضرات ألقاها تعبيراً عن فلسفته الجمالية، ونقلها للعربية أحمد يعقوب عبر كتاب «فيديريكو غارثيا لوركا…اللعب ونظرية الدويندي»، الصادر مؤخراً في القاهرة عن مؤسسة «أروقة» للنشر والترجمة والتوزيع.
قوة غامضة
يشير يعقوب في تقديمه للمحاضرات إلى أنها تتضمن ما يمكن تسميته «نظرية لوركا الجمالية»، وفلسفته في الحكم على الإبداع، حيث يسعى لاستنباط السر وراء التجلي والتفرد والأصالة في عمل ما دون غيره، سواء في الشعر أو القصة أو الغناء أو الموسيقى، أو حتى مصارعة الثيران. هذا السر هو ما يطلق عليه الشاعر «دويندي»، وهي كلمة إسبانية تعني حرفياً «مَلَكة»، لكنها تبقى ترجمة غير دقيقة في هذا السياق، ومن هنا أبقى المترجم على هذا اللفظ، كما هو، في لغته الأصلية.
«قوة غامضة يشعر بها الجميع، ولا يستطيع أي أحد تفسيرها حتى لو كان فيلسوفاً»، هكذا يضع لوركا تعريفاً أولياً لهذا «الدويندي»، تعريفاً لا يقودنا إلى الفهم الواضح اليسير المباشر، بل قد يزيد الأمر غموضاً، خصوصاً أن لوركا يشدد على أن ما يذهب إليه في تلك المحاضرات التي ألقاها في الأرجنتين وكوبا بدايات ثلاثينيات القرن الماضي لا علاقة له بـ«الإلهام» أو «الوحي» أو حتى «شيطان الشعر».
ما هو «الدويندي» إذن؟
يجيبنا لوركا: «لو كان لدينا عازف جيتار بارع يأسر الجميع بغنائه وموسيقاه، فإن (الدويندي) هو هذا الشيء الذي يخرج من قلبه، وروحه، ويسرى من رأسه حتى أخمص قدميه، شيء لا علاقة له بالحنجرة، أي جماليات الصوت وحلاوته وطلاوته! انظر إلى سلسلة من الجبال الرواسي بشموخها وجلالها، إن ما يمنحها كل هذه (الهيبة) هو (الدويندي)».
روح التمرد
هنا قد يسأل سائل: وهذا الشيء الغريب الغامض المدهش أين نجده، وكيف نعثر عليه؟ مرة أخرى يجيبنا لوركا: لا توجد خارطة أو قوات نظامية تساعدك في هذه المهمة، فـ«الدويندي» روح عصية على الإمساك، والمعلوم لدينا أنها حادة قوية قادرة على سفك الدم، كما يفعل الزجاج ببشرتنا، إنها روح التمرد على القوالب الجاهزة، وتحدي الأنماط الشائعة، والبحث عن صوت خاص في الإبداع يخرج من القلب بعد أن يكون صاحبه قد احترق به، وانفعل معه من فرط الصدق والمعاناة في التجربة الشعورية.
يضرب لوركا بعضاً من الأمثلة الشعرية التي تتجسد فيها هذه الحالة، فيتوقف على سبيل المثال أمام أبيات من ملحمة غنائية شهيرة في التاريخ الإسباني القديم يقول مطلعها:
«داخل البستان سأموت
في مشتل الزهور قتلوني
كنت سأغادر يا أمي
ذهبتُ أقطف الأزهار
لكني قطفت الموت..»
كما يضرب مثالاً آخر بأغنية من الفولكلور الإسباني تقول:
«العيون التي نظرت إليك بها
للظل أعطيتها
كانت حبيبتي جميلة
بالشفتين اللتين لامست الهواء بهما
للجبال أعطيتها»
ويبدي لوركا اهتماماً خاصاً بتجليات نظريته في مجال مصارعة الثيران، حيث يبدو مفتوناً بشكل خاص ببراعة بعض النماذج النسائية في هذا السياق: «مصارعات يعشقن الحياة، لكنهن لا يهبن الموت، وحين يصارعن الثور فهن يعرفن أن الثور هنا مجرد رمز للخرافات والخوف، وكل ما من شأنه أن يسجن الروح، ويمنعها من الانطلاق. المصارعات هنا يتحلين بالقوة والشجاعة والبراعة في المناورة. إنهن مثال للمحاربات الجميلات اللواتي يجمعن بين عطر الأنوثة والبأس في الميدان».
مقبرة أدبية
في محاضرة أخرى، يشرح لوركا لماذا اتخذ قراراً لا رجعة عنه بالاعتذار عن أي تكريم أو حضور أي وليمة تقام على شرف شخصه المتواضع، فهو يرى أنه لا توجد لحظة أكثر حزناً من التصفيق البارد الرتيب، كما أن أي تكريم ما هو إلا لبنة جديدة توضع في بناء مقبرتنا الأدبية. ويشير المؤلف إلى أن مبررات الشاعر العظيم، قد لا تبدو هنا مقنعة للبعض، خصوصاً في ظل تهافت الأدباء عادة على مثل هذه الاحتفاليات، لكن يحسب له أنه كان صادقاً، والتزم بما قال حرفياً حتى أنه ذهب إلى حد اعتبار أن الخطابات المكتوبة لتكريمه أشبه بجلود الحيوانات تجلب الفأل السيئ.
ويؤكد لوركا على أهمية المسرح، باعتباره منبراً مجانياً للضحك أو البكاء، لافتاً إلى أنه بإمكانه أن يكون سبباً في تقدم الدولة أو انحطاطها، «الأمر يعتمد على نوعية الأعمال المقدمة فهي يمكن أن تشحذ حساسية الناس للقيم والمبادئ، أو تخدر أمة بأكملها، كما أن المسرح الذي لا يعكس الهموم الحقيقية لمجتمعه لا يستحق أن يسمى مسرحاً أصلاً، بل غرفة ألعاب فارغة».
ويختتم المترجم كتابه بمحاضرة قصيرة حول أغاني ما قبل النوم للأطفال، وفيها يقوم لوركا بدراسة تحليلية موسيقية تقارن ما بين النغمات والألحان في هذه النوعية من الأغاني لدى إسبانيا وعدد من نظيراتها الأوربية، لا سيما روسيا وفرنسا، وتبدو هذه الدراسة على شيء من التعقيد نظراً لطبيعتها شديدة التخصص، لكن ما يلفت النظر حقاً هو الطريقة التي استهل بها لوركا المحاضرة بقوله: «في هذه المحاضرة لا أعتزم، كما في السابق، تحديد مفاهيم، إنما سأقدم تأكيدات، لا أريد أن أخطط، إنما أقترح وأشجع الطيور على الرفرفة بجناحين ناعسين، أشجع زاوية مظلمة على سحابة ممتدة، وأشجعكم أنتم على إهداء بعض مرايا الجيب للسيدات اللواتي يحضرن.
كنت أرغب في النزول إلى ضفاف القصب، من تحت القرميد الأصفر، عند مخارج القرى حيث يأكل النمر الأطفال»، ويتابع لوركا في مقدمته الغريبة غير التقليدية قائلاً: «أنا في هذه اللحظة بعيد عن الشاعر الذي ينظر إلى الساعة، بعيد عن الشاعر الذي يصارع التمثال، الذي يصارع النوم، الذي يكافح علم التشريح. لقد هربت من أصدقائي، وسأذهب مع ذلك الصبي الذي يأكل الفاكهة الخضراء ويراقب النمل يلتهم الطائر الذي سحقته سيارة».
الشعراء وكتابات المؤرخين
أعاد نص شعري للمغربي حسن نجمي من مجموعة جديدة بعنوان «ضريحُ أنَّا أخْمَاتُوفَا»، الجدل بخصوص العلاقة التي جمعت بين الملك الأندلسي المعتمد بن عباد (1040م – 1095م) وأمير المرابطين يوسف بن تاشفين (1009م – 1106م)، التي انتهت بوضع الأول في الأسر بأغمات إلى حين وفاته.
ونقرأ في نص نجمي مضموناً يؤكد انتصار شاعرٍ للملك الشاعر:
«لاَ أَعْرِفُ كَيْفَ كَانَتْ شَمْسُ مُرّاكُشَ – ويُوسُفُ بنُ تَاشفِينَ في كِبْرِيَاءِ القَصْرِ. – وَالأَنْدَلُسِي أَسِيرٌ في أَغْمَاتْ. – واْمرَأَتُهُ حَمَّالَة الأَلَمِ تُوجِعُ نَظْرَتَهُ. – تَغْزِلُ الصُّوفَ لِتُوفِّرَ لَهُ الكِسَاءَ والاِسْتِعَارَة. – لَعَلَّهَا الشَّمْسُ نَفْسُهَا (الَّتِي كَانَتْ) عَلَى رَأْسِي الآنَ – خَفِّفْ يَدَكَ يَا ابْنَ تَاشَفينْ. – لاَ يَصِحُّ – فَضَحْتَنَا في الأَصْقَاعِ. – القَصيدَة تُرَفْرِفُ في الضَّوْءِ. – وَبَرَاءَة الشَّاعِرِ كَشَمْسٍ صَغيرَة تَلْمَعُ في أَغْمَاتْ – سَرِّحْ غَرِيمَكَ أَيُّهَا المُفْرِطُ – لا تُقَيِّدِ الحَيَاة».
وأظهر تفاعل عدد من الآراء مع النص الذي نشره نجمي، قبل أيام، على حسابه بـ«فيسبوك»، تفاوتاً في التعاطي مع موضوع يعود إلى أكثر من عشرة قرون، بين من يتعاطف مع المعتمد بن عباد، ومن يبرر ما أقدم عليه يوسف بن تاشفين في حق الملك الأندلسي بالتشديد على أن «قسوة» أمير المرابطين كانت «من وزن الذنب»، مع «انتقاد» انتصار الشعراء للمعتمد، فقط لأنه شاعر.
كانت عدة كتابات للمؤرخين والمهتمين بتاريخ المنطقة، قديماً وحديثاً، قد تناولت وضع المعتمد في الأسر، من أكثر من زاوية. ومن ذلك أن نقرأ للفرنسي ليفي بروفنسال وجهة نظر تتضمن انتقاداً شديداً لمضمون الكتابات التي تذهب إلى استهجان موقف يوسف بن تاشفين من المعتمد بن عباد، جاء فيها: «إن مما تجدر ملاحظته كون الأميرين الأندلسيين اللذين نفاهما يوسف بن تاشفين من إسبانيا إلى المغرب، وهما عبد الله الزيري صاحب غرناطة، والمعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، لم ينقلا إلى مراكش، بل نقلا إلى أغمات، حيث كان العيش في ذلك العهد ألين والمقام أقل شظفاً، إذ إن ما ينسب للسلطان المرابطي من قسوة في حقهما وما ذكر من قضاء المعتمد خاصة بقية أيامه في الفاقة والحرمان التام، ضرب من ضروب الخرافة».
كما توقفت كتابات أخرى عند الأسباب التي أدت إلى وضع المعتمد بن عباد في الأسر بأغمات، ومن ذلك «كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى» لأحمد بن خالد الناصري، حيث نقرأ سرداً لعلاقة المرابطين بالأندلس زمن ملوك الطوائف، مع الإشارة إلى اللحظة التي شدد فيها القائد المرابطي سيري بن أبي بكر في «الحصار والتضييق على إشبيلية» حتى «اقتحمها عنوة وقبض على المعتمد وجماعة من أهل بيته فقيدهم وحملهم في السفين بنهر إشبيلية وبعث بهم إلى أمير المسلمين بمراكش فأمر أمير المسلمين بإرسال المعتمد إلى مدينة أغمات فسجن واستمر في السجن إلى أن مات به لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال سنة ثمان وثمانين وأربعمائة وكان دخول سيري بن أبي بكر مدينة إشبيلية يوم الأحد الثاني والعشرين من رجب سنة أربع وثمانين ثم ملك المرابطون بعد ذلك ما بقي من بلاد الأندلس إلى أن خلصت لهم ولم يبق لملوك الطوائف بها ذكر».
ويرد في كتاب «الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية»، ذكر عن «سر» اختيار أمير المرابطين وضع المعتمد بن عباد في الأسر، حيث جاء تحت عنوان «سيرة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين»، أن هذا الأخير «كان رجلاً فاضلاً، خيراً، فطناً، حاذقاً، زاهداً، يأكل من عمل يده، عزيزَ النفس، ينيبُ إلى الخير والصلاح، كثير الخوف من الله عز وجل، وكان أكبر عقابه الاعتقال الطويل، وكان يفضل الفقهاء، ويعظم العلماء، ويصرف الأمور إليهم، ويأخذ فيها برأيهم، ويقضي على نفسه بفتياهم».
وتوجد أغمات، حيث ضريح المعتمد، على مسافة نحو 30 كيلو متراً من مراكش، حيث ضريح يوسف بن تاشفين الذي يقع على بعد خطوات من مسجد وصومعة «الكتبية».
ويأخذ ضريح المعتمد، الذي يحتضن، بالإضافة إلى قبر الملك الأندلسي، قبر زوجته اعتماد الرميكية وأحد أبنائهما (أبو سليمان الربيع)، شكل قبة مصغرة، وفق العمارة المرابطية، تزينها بعض الأبيات الشعرية التي نظمها الأمير الشاعر في رثاء حاله، تفرض على الزائر رهبة، تعيد عقارب الزمن إلى مجد غابر، تخللته كثير من المآسي، بشكل يؤكد أن الدنيا دوائر.
داخل الضريح، لا يمكن للزائر إلا أن يستعيد علاقة الملك الأندلسي بزوجته وأبنائه، فضلاً عن ظروف إقامته بأغمات؛ خصوصاً حين يقرأ شاهد قبر زوجته: «هنا قبر اعتماد الرميكية زوج المعتمد التي شاركته في نعيمه وبؤسه»؛ أو الأبيات التي كتبها المعتمد، قبل موته، وطلب أن تكتب على قبره، التي يقرأ فيها الزائر: «قبر الغريب سقاك الرائح الغادي – حقاً ظفرت بأشلاء ابن عبادِ – بالحلم بالعلم بالنعمى إذا اتصلت – بالخصب إن أجدبوا بالري للصادي – بالطاعن الضارب الرامي إذا اقتتلوا – بالموت أحمر بالضرغامة العادي – بالدهر في نقم بالبحر في نعم – بالبدر في ظلم بالصدر في النادي – نعم هو الحق حاباني به قدر – من السماء فوافاني لميعادِ».
أما أبيات لسان الدين بن الخطيب (1313 م – 1374م)، التي قالها، سنة 1360م، حين زار قبر المعتمد، فنقرأ فيها: «قد زُرْتُ قبْركَ عن طَوْع بأغْماتِ – رأيتُ ذلك من أوْلى المُهمَّاتِ – لِمَ لا أزوركَ يا أنْدى الملوكِ يداً – ويا سِراجَ اللّيالي المُدْلِهمَّات – وأنتَ من لو تخطّى الدّهرُ مَصْرعَهُ – إلى حياتي أجادَتْ فيه أبياتي»، فتؤكد للزائر مكانة ملك إشبيلية، عند من عاصروه ومن سمعوا به، في عصور لاحقة.
الملاحظ أن وجهات النظر المنتصرة للمعتمد بن عباد لم تتوقف عند الشعراء، بعد أن أغرت سيرة الملك الأندلسي الروائيين فوظفوها في كتاباتهم ذات النفَس التاريخي. ومن أمثلة ذلك رواية «زينب النفزاوية ملكة مراكش» لزكية داود، التي بقدر ما تعاطفت مع الملك الشاعر، مشيرة إلى أن «الإفراط في إذلال» الملك الأندلسي «مردود»، حاولت البحث للأمير المرابطي عن مبررات لموقفه وطريقة تعاطيه مع ما اعتبر «خيانة عظمى»؛ ومن ذلك أن نقرأ في هذه الرواية على لسان يوسف بن تاشفين مخاطباً زوجته زينب النفزاوية الراغبة في تليين موقف زوجها من الملك الأندلسي الذي قالت إنه آزره وشارك إلى جانبه في معركة الزلاقة الشهيرة: «وغاضبة يا زينب! ابن عباد قد ظاهر عدونا. ولئن أرسلتُه إلى أغمات ولم أُبقه بطنجة أو مكناس، فذلك لأني أحفظ الوُدّ القديم».