عند الحديث عن سقوط الأندلس يذهب بعض المؤرخين إلى تحميل “زِرْياب” المسؤولية كأحد أهم أسباب هذا السقوط وهناك الكثير ممن يعارضون هذا الطرح ويعتبرونه تشويهاً لتاريخ هذا الرجل فمن هو “زِرْياب”؟ يُعرف بمخترع معجون الأسنان ومصمم الأزياء بحسب الفصول الأربعة ورائد مدرسة الموسيقى الكلاسيكية في العالم وهو من أدخل الشطرنج إلى أوروبا..
وهو كردي مسلم اسمه الحقيقي أبو الحسن علي بن نافع لقّبه الناس بـ”زرياب” بسبب لون بشرته الداكن وصوته العذب فالزرياب طائر أسود بصوت رائع وُلد في بغداد عام 789 للميلاد وعاش فيها أثناء فترة حكم هارون الرشيد خامس الخلفاء العباسيين وبغداد كانت مركزاً عالمياً للفنون والعلوم هرب من بغداد بسبب غيرة مُعلمه إسحاق الموصلي الذي كان كبير الموسيقيين في ذلك الوقت وللغيرة قصة.. أراد الخليفة هارون الرشيد سماع صوت زرياب وعزفه فلما عزف وغنى أبهر الحاضرين ما أثار خشية أستاذه إسحاق الموصلي من أن يحلّ مكانه في قصر الخليفة فحثه على مغادرة بغداد عبر زرياب إلى تونس ومن هناك سافر إلى الأندلس بطلب من الخليفة الأموي عبدالرحمن الثاني وهناك بدأ تأثيره في أوروبا كلها كان يحفظ 10 آلاف أغنية ولحن عن ظهر قلب وافتتح مدرسته الخاصة للموسيقى طوّر 24 وحدة غناء منفصلة لكل ساعة من ساعات اليوم وكانت هذه إحدى المساهمات في تطوير الموسيقى الكلاسيكية الغربية أضاف للعود العربي وترين وساهم في تحسينات أدت لابتكار قيثارة الفلامنكو غير أنه لم يكن موسيقياً ومغنياً فحسب.. بل ثائراً في عالم الأناقة وبريستيج الطعام هو من ابتكر حلوى “غيرلاتشي” الإسبانية الشهيرة ويُعتقد أنه مبتكر حلوى “الزلابيا” وهو أول من أدخل الأطباق الزجاجية والأثاث الجلدي إلى طاولات الطعام والنهج الفرنسي بتقسيم الوجبة إلى 3 أطباق هو في الأساس ابتكار زرياب وكان مولعاً بالنظافة ويعد أول من استخدم الملح في غسيل الملابس وكان خبير تجميل فقد أدخل تصفيفات شعر شهيرة ومختلفة للرجال والنساء إلى أوروبا وهو أول من بدأ رسم الحواجب بعد سقوط الأندلس نُسي زرياب والعديد من الشخصيات البارزة الأخرى التي أثرت في أوروبا.. لكن إبداعاته وابتكاراته لا تزال حاضرة ومؤثرة حتى يومنا هذا
زرياب والزلابية
المغني الأشهر ابن القرن التاسع الميلادي الذي أبعده أستاذه في الغناء من بغداد غيرة منه ليعيش في القيروان، ويثبت جدارته هناك أيضا، فقربه الخليفة منه وأهداه عددا من الجواري، أن من بينهن جارية أشبه بجهاز التسجيل في حياتنا المعاصرة، حتى أنه كان كلما خطرت بباله فكرة، وهو في منتصف الليل، أيقظها لتشهد ميلاد اللحن الذي يؤديه على العود وتحفظه وتعيده عليه في اليوم التالي، هو ومجموعة الموسيقيين، من ذاكرتها العجيبة التي لا تخطيء، ليشتغلوا عليه.
لكنه لم يعثر على كتابه، وإنما عثر على موسوعة «مغني العرب» حيث كان يعرف أن مؤلف الموسوعة حكى حكاية طريفة عن جارية أخرى من جواري زرياب (كان الخليفة قد أهداها له هي أيضا) لكنها لم تكن مغنية أو عازفة، بل كانت مختصة بصناعة الحلوى لزرياب وضيوفه، وعلى رأسهم الخليفة الذي كان يأتي متخفيا في الليل، ليعب الشراب ويستمع للموسيقي من زرياب وجواريه، ويأكل الحلوى من يد صانعة الحلوى الرقيقة التي جاءت عصر أحد الأيام باكية لزرياب (خاصة أنه كان من المنتظر أن يهل الخليفة مساء هذه الليلة) تشكو إليه من أن مقادير الحلوى قد زلت بها فأضافت الكثير من الماء على الدقيق، وانتهى الأمر بأن صنعت حلوى لم يكن أحد قد صنعها من قبل في التاريخ، فاستطعمها زرياب ووجدها طيبة، فأكل منها بشراهة دفعت رهط الجواري للضحك الذي جلجل في أركان القصر، وإذا بزرياب يغني لما أسماها «الزلابية» ومعه الجواري. قال الدكتور علي محمود في نفسه: أعتقد أن هذه حكاية لطيفة يمكن أن تكتب على هيئة قصة قصيرة.
ولأنه كان يعرف أن كتابة القصص المأخوذة عن أحداث التاريخ الحقيقية أضحت الآن أمرا ممجوجا، خاصة ونحن في القرن الحادي والعشرين، وقصة الزلابية جرت قي القرن التاسع، رأى الدكتور المؤرخ أن عليه أن يدون عناصر قصة الزلابية في ورقة ويذهب لاستشارة نجيب محفوظ، فربما أقره علي فعلته. ولأنه كان يعرف أن محفوظ رجل مجامل جدا، خاصة تجاه من يحاولون كتابة القصص، قال إنه لابد سيقرني على كتابتها، فلم إذن لا أكتبها دون أن أذهب إلى محفوظ أو غيره؟ وبالفعل جلس إلى مكتبه وسحب مجموعة أوراق من رزمة الورق الأبيض النظيف الذي يحب الكتابة عليه، وأمسك بالقلم وأخذ «يشخبط» و»يشخبط» لكنه لم يستطع أن يخط حتى ولو سطرا واحدا عن جارية الزلابية، فقال لم إذن لا أكتب قصة زميلتها صاحبة الذاكرة التي كانت تعوض زرياب عن جهاز الريكوردر الذي لم تكن البشرية قد توصلت إليه بعد، فهي على الأقل اختراع بشري مذهل؟
وعاد للشخبطة من جديد حتى انتهى به الأمر إلى الإغماء، ولم يستطع أن يكتب أي قصة من أي نوع، بل إنه حين أفاق عاهد نفسه، وأسر بالعهد إلى نجيب محفوظ من بعيدد، بأنه لن يحاول مرة أخرى، لا كتابة قصة قصيرة أو طويلة، ولا حتى مجرد التفكير في كتابة أي منهما، وأن عليه أن يعود لمهنته، ويستكمل مسيرته كمؤرخ للموسيقى (فهذا على الأقل هو ما أنفق حياته كلها في عمله) وهو وإن كان أحيانا يضيق به، إلا أنه كان قد وجد فيه، في كثير من اللحظات، سعادة لا توصف، خاصة حين يؤرخ لقصص من نوع قصة الجارية مخترعة الزلابية، أو زميلتها صاحبة الذاكرة الحديدية التي عوضت زرياب عن جهاز الريكوردر، وعوضتنا موسيقى قيل أنها كانت جميلة، وظل الناس يغنونها لعدة قرون، ثم انمحت ولم نعد نسمعها، لأنه لم يكن هناك كثيرون يمتلكون ذاكرة مثل ذاكر تلك الجارية، وجهاز الريكوردر لم يكن قد اخترع بعد.