يستعرض كتاب «الروح بين الخيال والفلسفة والعلم» التاريخ الثقافي الذي تُشكل فيه الروح جوهر تصور الإنسان عن نفسه عبر العصور، ويحلل الرؤى الفلسفية والدينية والثقافية المختلفة التي ساهمت بتأثيراتها وتفاعلها في تشكيل تصور معاصر للروح والنفس. الكتاب صدر حديثاً عن دار الترجمان المصرية للنشر والترجمة، ويسعى مؤلفه المفكر النرويجي أولي مارتن هويستاد، من خلال مقدمة وثمانية أقسام وخاتمة، إلى التعريف بالروح والنفس في الثقافتين البوذية والإسلامية العربية، كما يتتبع تطور المفهوم الخاص بهما في الثقافة الغربية الحديثة.
ويصف الكتاب، الذي قدم نسخته العربية المترجم المصري أيمن شرف، تطورات الروح وتشابكاتها وتأثيرها وتأثرها وتحولاتها التاريخية، وكيف تم تفسيرها كمجاز ورمز، فضلاً عن إعادة وصف الطريقة التي طبعت بها وجدان الإنسان وتركت بصماتها وراءها كتراث ومصدر إلهام لا ينفد، وبهذا المعنى فقد تم وصف الروح، وإجراء دراسات عنها، للوصول في النهاية إلى أن الإنسان كائن قابل للتشكل وللتغيير، وقد صاغ الفلاسفة على اختلافهم من أفلاطون وأرسطو في العصور القديمة وحتى نيتشه وفيتجنشتاين في العصر الحديث مجموعة متنوعة من المفاهيم الروحية، وشكل الصراع بين التفسير الفلسفي والديني للروح فهم الإنسان في الثقافة الأوروبية حتى يومنا هذا.
– تطور المفاهيم
يغطي الكتاب مساحة واسعة من تطور مفاهيم الروح في الثقافات الإنسانية المختلفة والأديان والفلسفات، ويعرض في إيجاز للتداخل والتأثير بين الحضارات القديمة والحديثة، وآراء العديد من المفكرين والفلاسفة وكبار الأدباء الذين أثروا وتأثروا بتلك المفاهيم، كما يتعرض المؤلف لتطور مفهوم الإنسان عن نفسه عبر العصور، وذلك من خلال إجابات قدمها مفكرون وفلاسفة ومنظرون وأدباء وعلماء نفس ولاهوتيون وصوفيون ينتمون إلى ديانات مختلفة عن أسئلة تدور حول الروح، وما إذا كانت مادة أم فكرة… عقلاً أم شعوراً… شكلاً أم مضموناً… فرضية أم واقعاً؟ وهل هي فردية خالصة أم أنها تتجاوز الفرد؟
ومن ثم، يسعى هويستاد خلال فصول كتابه إلى البحث في أسباب ظهور أنماط الحياة البديلة في الغرب منذ حركة «قوة الزهرة» في الستينيات، وانتشار الرؤى الروحية القادمة من الشرق الأقصى، سواء كانت مستمدة من الفلسفة البوذية أو اليوجا أو غيرها من المذاهب التأملية، وقال إن الرؤى العالمية البديلة مثل «العصر الجديد» وغيرها من الثقافات الفرعية في المجتمع المادي الحديث تمثل تعويضاً عن الضياع أو الطموح أو الاحتياجات الروحية غير المشبعة، وعلى هذه الخلفية أيضاً يمكن فهم دور مؤسسة «عشتارت» المعروفة باسم «مدرسة الملاك» التي ترعاها الأميرة النرويجية مارثا لويز والأشكال الحديثة من الروحانية، حيث تدور كثير من هذه الحركات حول الروح والقوى الروحية وتناسخ الأرواح وتجوالها وتجارب الخروج من الجسد، وهي موضوعات شائعة في الأدب الشعبي وأدب الخيال أيضاً، وتقدم أكثر الكتب مبيعاً مثل «هاري بوتر» أو «سيد الخواتم» مسرحاً رائعاً لعالم الروح وسحرها، بما يشير إلى أن الروح الغامضة لا تزال تلعب دوراً في وعي الإنسان، وتندرج ضمن احتياجاته، حيث يتعافى بشكل سري ما لم تحصل عليه الروح، من تأكيد علمي، في الحركات البديلة وفي الثقافة الشعبية والعالم الخيالي للأدب والسينما.
ويشير هويستاد إلى أنه سعى من خلال تحليلاته لإدراك معنى الروح في الثقافة الغربية بدرجة دقيقة، ولكي يتمكن من ذلك فقد حظيت النصوص الأساسية من العصور القديمة، وحتى الآن، بمكانة مركزية في فصول الكتاب، حيث تبرز الفترات التاريخية المختلفة، سواء كانت قديمة أو وسطى أو حديثة، بأصوات شعرائها ومفكريها، فضلاً عن الفلاسفة وعلماء النفس.
– الروح واللغة
لم يتوقف هويستاد عند هذا الحد، بل راح يستعرض أيضاً معنى الروح في الثقافتين البوذية والعربية، مشيراً إلى أنه «لكي نفهم أنفسنا في عصر متعدد الثقافات يتعين علينا أن نفهم الآخرين أيضاً»، ولفت إلى أن الحوار مع عمالقة الماضي مُهمة هائلة، وقد كان هدفه من ذلك تقديم عرض شامل متعلق بالروح كما تُفهم في الثقافة، يتضمن الأعمال الأدبية من منظور هذه الثقافة، فلم تكن نيته إعادة إنتاج تاريخ بعينه، بل سعى لاستنطاق المصادر التاريخية لكي يظهر ما تعنيه الروح في زمن بدت وكأنها من المحرمات في العالم الغربي.
وذكر المؤلف أن كثيراً من الناس يعتقدون أن لديهم روحاً، لكن قليلين منهم يمكنهم أن يفسروا ماهيتها، ذلك لأنها تمثل شيئاً داخلياً وشخصياً يصعب صياغته في كلمات، ولهذا سعى الفنانون بالصور والرموز للتعبير عنها وبالموسيقى لمعالجتها، مشيراً إلى أنه ليس من قبيل الصدفة نشوء ما يسمى بـ«موسيقى الروح» لدى الأميركيين ذوي الأصل الأفريقي نتيجة يأسهم وإذلالهم، فقد كانت أرواحهم هي الشيء الوحيد الذي يملكونه، الذي يمكن استعباده حسب ما تشهد الأغاني التي غنوا فيها للأمل وللحرية.
ولفت هويستاد إلى أن التفاوت بين التعريف غير الواضح للروح، وفهم معظم الناس لها ينعكس في اللغة، حيث يتم الحديث عن «أراوح طيبة وصالحة»، و«خلاص الروح» و«العمق الروحي»، فضلاً عن الشعور «بشيء دفين في الروح»، والحديث عما يسمى «تلاقى الأرواح»، والخوف من «التعرض لأذى روحي»، وهناك تعبيرات تشير إلى سمات شخصية وأخلاقية، فيقال إن هناك «أرواحاً قوية وأرواحاً ضعيفة»… و«أرواحاً حرة وأرواحاً منغلقة»، كما يتم النظر إلى «الروح باعتبارها مكمن الشخصية من حيث القوة والضعف»، ويقال إن «أرواح بعض الناس حساسة»، و«أرواح آخرين متقلبة»، ويجري الحديث عن أمراض جسدية وروحية، يطمح أصحابها إلى الخلاص منها وراحة البال.
وهو يرى أن «الروح كانت، على مدى تاريخ البشرية، المنشورَ الزجاجي الذي يُنظر من خلاله إلى الإنسان وحياته ويتم تفسيرهما من خلاله»، ولعل مناشدة سقراط لمواطنيه الأثينيين بأن يعتنوا بأرواحهم، ورسالة الخلاص المسيحية عن الحفاظ على الروح تعد هي الأسس الجوهرية في مفهوم الإنسان في الثقافة الغربية، حيث تُفهم الروح على أنها تعبير عن شخصية الفرد وذاته وكل ما يتعلق به من أفكاره أو كلماته أو أفعاله، فقد أصبحت مقياساً لكل الأشياء التي يتحمل الفرد المسؤولية عنها ويمكن محاسبته عليها، فهي التي تجعل الإنسانَ إنساناً، وهي علامته على ما إذا كان يشبه هابيل أم قابيل.
أما عن فكرة الروح، فقد نشأت، حسب رأي المفكر النرويجي، كرد فعل على غموض الموت، وقد كان لدى «إنسان الكهوف» طقوسه الجنائزية، حيث تشير الطريقة التي كان يدفن بها موتاه إلى أنه كان يؤمن بالحياة بعد الموت، أما في الثقافة الأوروبية فقد تغيرت مكانة الروح للمرة الأولى مع عصر النهضة، وعلى وجه الخصوص مع عصر التنوير وادعائه التأسيس العقلاني والعلمي، لكن رغم ذلك لم يتمكن أحد من العلماء من إثبات جوهر الروح بشكل علمي، وقد سعى البعض إلى تنجيمها استناداً إلى المفاهيم الدينية والإيمانية، أما البعض الآخر فقد رأوا أنها مفهوم انتهى بفعل الزمن، وقد حفزت وجهات النظر هذه مؤلف الكتاب، فراح يحقق ما إذا كانت صحيحة، ويوضح مكانة الروح في القرن الحادي والعشرين استناداً إلى تاريخها في بعض الثقافات والأديان غير الغربية مع عرض المفهوم الخاص بها في الديانتين البوذية والإسلامية، حيث يلعب مصير الروح في كليهما دوراً مهماً في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وفي هذا السياق راح هويستاد يبحث فيما ذكره القرآن عن النفس والروح، وما يحقق خلاصها مشيراً إلى أنه كان عنصر تحفيز سياسي استناداً إلى أن بعض المسلمين يعتقدون أن بإمكانهم دخول الجنة في الآخرة إذا ضحوا بحياتهم في الجهاد.
وفي الكتاب سعى المؤلف أيضاً إلى بحث وظيفة الروح والاحتياجات التي تحققها، وقال إنه يمكن فهم سمات الروح والمصير في معظم الثقافات كنتيجة لطريقة حياة الفرد، ولذلك ينصب التركيز الرئيسي على الحياة التي يعيشها الإنسان وعلى كيفية تطوير الفرد لسماته الشخصية والروحية والوفاء بالتزاماته تجاه الآخرين، وهذا، من وجهة نظره، أهم جوانب الروح في العصر الحالي، فرغم أن الروح فردية تماماً إلا أنها مشروطة بالعلاقة مع الآخرين، وبدون أخذهم في الاعتبار لا يستطيع المرء أن يصون نفسه، ولذلك تصبح الروح في خطر عندما يستسلم الفرد للحركات الجماعية مثل الشيوعية والفاشية والقومية ووسائل الإعلام وقوى السوق وسوء استخدام السلطة السياسية.
الرواية… من مخيال البراءة إلى جحيم الحرب
الأشياء الصغيرة «اليومية»، وربما المهملة والهامشية، التي تحفل بها حياتنا هي ما تلفت انتباه القاص الروائي لؤي حمزة عباس في روايته القصيرة (النوفيلا) الموسومة «حقائق الحياة الصغيرة» (2021)، فالروائي لا يبحث عن الأشياء والأحداث الكبيرة، لكنه يمنح هذه الأشياء الصغيرة حجماً مكبراً، كأنه يضعها تحت عدسة مكبرة، حيث يروح يستنطقها ويستغور عالمها الداخلي، ويفكك شفراتها السرية، لكي تنبض بالحياة، وتمنح الفرصة للقارئ لأن يتلقاها بعفوية وبراءة، وربما يعيد اكتشافها وتأويلها وصولاً إلى أنساقها المغيبة التي تنقله من عالم الأشياء الصغيرة إلى فضاء الأشياء، والدلالات والأحداث الكبرى…
– الروائي الغائب
أحداث الرواية بكاملها تطل عبر منظور بطلها الصغير، غير المسمى، الطالب في المدرسة الابتدائية. ومن خلال سرد مبأر عبر ضمير الغائب الذي هو ليس جزءاً من السرد كلي العلم، بل هو شكل سردي موضوعي مبأر يسميه تودروف بـ«أنا الراوي الغائب»، حيث يمكن بسهولة استبدال الضمير الغائب «هو» بالضمير «أنا». ويلاحق بطل الرواية الصغير، عبر مخيال الطفولة البريء، أحداث عالمه الصغير الذي يتسع لاحقاً عندما يصبح جندياً ينام في خنادق الحرب وسواترها، بكثير من العفوية والبراءة، وأحياناً ينقل لنا مشاهد حياته من خلال «عين كاميرا» تدون بحيادية اللقطات المختلفة، وهو نهج يعتمده الروائي في أغلب قصصه ورواياته. وبطل الرواية في رؤيته وسرده مشبع بكم هائل من الحكايات الفولكلورية والقصص الخرافية والميثولوجية، من خلال حكايات جدته له أو من خلال الكتب التي يقرأها لجدته عن قصص الأنبياء، فضلاً عن قراءاته الخاصة وولعه بشكل خاص بالكتب التي تحدثه عن مدن العالم الساحرة، والتي حدثه عن بعضها ابن عمه البحار (سليم). وفجأة، يجد هذا البطل الصغير نفسه وقد أصبح جندياً في واحد من أنفاق الحرب المجنونة في شرق البصرة التي شنها صدام حسين لتأكل الأخضر واليابس، لكن وعي البطل الصغير البريء العفوي التلقائي، وربما الميثولوجي، يظل مهيمناً على وعي الجندي الصغير وهو يواجه آلة الحرب المرعبة.
ولم يكن البطل الصغير وحيداً في مواجهة العالم، بل كان يقف دائماً إلى جانبه صديقه جرذً ما، وغالباً ما يعامله معاملة المعرف بـ«أل التعريف» الدال على النوع، حيث يخاطبه ويصغي إليه، بل يستنجد به أحياناً للانتقام له من بعض زملائه الذين يعنفونه أو من بعض معلميه القساة، ومنهم المعاون عباس والمعلمون الذين يرتدون السفاري الزيتوني تشبهاً بالحزبيين في ذلك الوقت. كان يكتب للجرذان لتنتقم له، ثم يتوجه لأقرب فتحة من فتحات جحورها في حديقة المنزل أو تحت العتبة… ليرمي ما يكتب كلما ضايقه أحد الطلاب… ويكتب اسم الطالب أو المدرس عليها… ثم يلف الورقة ويرميها، وكأنه يحاكي سكان الكهوف القدامى في رسومهم البدائية داخل الكهوف وهم يصوبون سهامهم نحو طرائدهم، أو مثلما يفعل بعض السحرة للانتقام من شخص ما بكتابة اسمه والدعاء عليه لكي يحققوا فعل الانتقام.
ظل بطل الرواية طيلة حياته يشعر بالتماهي مع عالم الجرذ الصغير وهو يتذكر حكاية جدته. ولكن ما سر علاقة البطل بالجرذ؟ وهو سؤال أثاره البطل في حواره مع ابن عمه سليم، ولماذا الجرذ بالذات؟ وهو سؤال ظل مفتوحاً (ص 51).
يخيل لي أن البطل الصغير اختار الجرذ صديقاً وظلاً وتوأماً لكي يستطيع أن يحادثه ويبثه همومه، ربما بسبب نزعته الانطوائية وخشيته من الآخرين الذين قلما يقيم معهم حوارات واسعة. وربما يذكرنا هذا الاختيار برواية «كاتم الصوت» لمؤنس الرزاز، وبطلها يوسف الذي شعر بحاجته إلى شخص يقدم له اعترافاته، فاختار «سلافة» الصماء التي بدأ يبثها أسراره وهمومه. ويقدم الروائي مونولوجاً داخلياً للبطل المجند وهو يخاطب الجرذ: «أراقبك وأنت تتحرك، أستعيد مع كل حركة من حركاتك جانباً من حياتي… إنها أبواب حياتي التي قفزت فيها من الطفولة إلى الحرب» (ص 91). كأن البطل يشعر بأن عمره قد خطف مثل جرذ خائف عندما صار جندياً.
رواية لؤي حمزة عباس «حقائق الحياة الصغيرة» ليست مجرد ملاحقة لمراحل نمو بطل الرواية الصغير منذ أن كان فتى صغيراً في الدراسة الابتدائية حتى صار جندياً داخل جحيم الحرب، فهي ليست رواية التربية العاطفية التي كتبها غوستاف فلوبير، وليست مناسبة لتمييز مراحل «طقوس العبور» عبر المراحل العمرية المختلفة، بل هي أولاً وقبل كل شيء رواية عن الحرب، وعن الاستبداد والديكتاتورية. فالحرب تتقافز في الرواية، تماماً مثلما تتقافز الجرذان عبر التاريخ وفي خنادق الحرب، لكن الحرب لم تطل برأسها وثائقياً، وإنما من خلال أصدائها وصواريخها التي كانت تسقط على رؤوس الأبرياء وبيوتهم الآمنة، وتعيد تأسيس تقاليد عسكرة المجتمع وتدمير قيمه، كما نجد ذلك في إشاعة روح العنف والقسوة لدى الأجيال الجديدة من خلال قيام طلبة المدرسة الابتدائية بقيادة الطالب المشاكس شهاب الوحش بعملية اصطياد الجرذان والحيوانات الصغيرة، والتلذذ بتعذيبها وقتلها وحرقها. وهو مشهد ذكره بشخصية صدام حسين في طفولته، عندما كان يتلذذ بقتل الحيوانات الصغيرة، التي تومئ إلى شخصية عدوانية سادية.
– تناص مع «الأمير الصغير»
رواية لؤي حمزة عباس رواية تحتاج إلى قارئ خاص، ربما قارئ يمتلك روح طفل صغير برئ، مثل بطل الرواية ومخياله السحري الميثولوجي، وربما يمتلك أيضاً مخيال بطل رواية «الأمير الصغير» لأنطوان سانت أوكزبيري التي ذكرها لحبيبته الافتراضية (بلقيس)، وأخبرها عن هذا الأمير الصغير الذي يعيش بعيداً وحيداً على كوكبه: «تصوري أميراً وحيداً على كوكب بعيد، كل شيء صغير على كوكبه، وليس لديه سوى زهرة يرعاها، تحدثه ويحدثها»، حيث نكتشف أن هذا الأمير الصغير الذي كان بحجم نبتة صغيرة يعشق وردة، وكان يحادثها ويبثها همومه وأحلامه، لكنه في لحظة معينة يكتشف أنها قد خذلته عندما قررت أن تهجره وترحل بعيداً إلى كوكب آخر. وهذه الموتيفة الصغيرة ربما تذكرنا بعلاقة بطل الرواية الصغير بجارته (بلقيس) التي أحبها عن بعد من طرف واحد، ولم يجرأ على الاعتراف لها بحبه أو الاقتراب منها، مما دفعها إلى إقامة علاقة عاطفية مع ابن عمه البحار (سليم)، عندما فوجئ بهما وهما في موقف عاطفي ساخن، مما جعله يتهمهما بالخيانة لحبه غير المعلن، وهو أمرٌ قد ضاعف من غضبه، وربما دفعه إلى قتل الجرذ بحجر دون أن يحس بالأسف والحزن.
يخيل لي أن قصة أو (نوفيلا) «الأمير الصغير» كانت تمثل بصورة أو بأخرى النص الغائب للرواية الذي أقام معه المؤلف تناصات كثيرة، مثلما أقام تناصات أخرى مع العشرات من قصص الأطفال والحكايات الميثولوجية والشعبية، فضلاً عن تناصاته مع كتاب «الجرذ: والتاريخ الطبيعي والثقافي» تأليف جوناثان بيرت، ترجمة معن أبو الحسن، منشورات «كلمة» أبوظبي 2011.
وفي هذه الرواية، يرتفع الروائي لؤي حمزة عباس بمستوى منظوره السردي في التقاط نماذج الحياة اليومية الصغيرة التي تمثل هامشاً اجتماعياً، ويتجنب المتن المركزي الرسمي خاصة. ولكي يظل بعيداً عن المركز، نراه يعمد في الغالب إلى خلق أبطال صغار بمخيال بريء منفتح، ويمنحهم الفرصة لإعادة قراءة التاريخ الثقافي والاجتماعي والسياسي لمدينة البصرة وأناسها، ربما كناية عن العراق نفسه. ولكي يعمق الإحساس بالبراءة، نراه يبتعد إلى حد كبير عن الإسقاطات السيكولوجية، ويحرص على تقديم منظر محايد موضوعي من خلال لقطات سريعة أشبه ما تكون بلقطات سينمائية وامضة، أو من خلال بناء بنية لمشهد روائي، ولكن غالباً عبر ترك «عين كاميرا» مفتوحة، من خلال منظور البطل المبأر الذي يتلقى إشارات العالم الخارجي وشفراته وعلاماته بعفوية وشفافية، ويتحول الوصف الروائي، خاصة في مظهره الشيئي الذي رسخته تقاليد «مدرسة النظر» في الرواية الفرنسية الجديدة، إلى عنصر مهم في تدعيم المنظور الموضوعي المحايد لمخيال البطل الصغير المنبهر بمرئيات العالم ورموزه وحكاياته.
لقد عمد الروائي إلى تجميد حركة الزمن عند مخيال البطل الصغير غير المسمى (كعادة المؤلف)، وكما فعل في روايته «مدينة الصور» التي بقي فيها بطل الرواية يمتلك وعياً طفولياً عندما أصبح شاباً، ويدفعنا إلى استذكار بطل سالنجر في «حارس حقل الشوفان» وليم كولفيلد. فرغم مرور الزمن الذي جعل من هذا الفتى الصغير جندياً في خنادق الحرب المجانية، فإن السرد المهيمن منذ بداية الرواية حتى نهايتها يتسم بوعي البطل الصغير ومخياله من فترات النضج اللاحقة، فقد كانت تومض بين فترة وأخرى، وظلت هي الأخرى محكومة إلى حد كبير بمخيال البراءة والعفوية والموضوعية الذي استهل به البطل الصغير سرده لحياته ولعالمه ومدينته البصرة.
لؤي حمزة عباس، روائي من طراز خاص، تعلم الشيء الكثير من محمود عبد الوهاب ومحمد خضير وفؤاد التكرلي، وحكايات الجدات، ومن تراث أدب الأطفال وكتب الفولكلور والميثولوجيا، فضلاً عن الرواية العالمية، واختار أن يكون حارس مخيال البراءة والطفولة والصدق بطريقة سردية باهرة.
«دار الساقي» تفوز بجائزة عبد العزيز المنصور لـ«قصص الأطفال»
أعلن «اتحاد الناشرين العرب»، أمس الاثنين، فوز «دار الساقي» اللبنانية بـ«جائزة الناشر الكويتي الدكتور عبد العزيز المنصور لدعم الناشرين» في دورتها الثانية لعام 2020، لـ«قصص الأطفال»، وقيمتها 10 آلاف دولار أميركي تمنح بالكامل لدار النشر الفائزة.
وقال رئيس لجنة تحكيم الجائزة، الدكتور طارق البكري، في بيان صحافي لـ«الناشرين العرب»: «إن فوز (دار الساقي) جاء عن قصة (نزهتي العجيبة مع العم سالم)، وهي من تأليف الروائية الإمارتية نادية النجار، ورسوم الفنانة السورية جلنار حاجو».
وأوضح البكري أن لجنة التحكيم لهذه الدورة ضمت الدكتورة وفاء الشامسي (من سلطنة عمان)، والدكتور أشرف قادوس (من مصر)، والشاعر محمد جمال عمرو (من الأردن)، والأديب صالح الغازي (من مصر).
وحسب لجنة التحكيم، تميزت «نزهتي العجيبة مع العم سالم» بأنها «رشيقة الأسلوب، ومتكاملة العناصر، ومشوقة السرد، وسهلة الألفاظ، وتعرف الطفل على بعض تفصيلات الحياة، وتثير في نفسه روح المثابرة والإرادة والشعور بالآخر، فضلاً عن شكلها الجميل، ورسومها المبتكرة، وطباعتها الفاخرة».
وأعرب رئيس اللجنة عن شكر وتقدير لجنة التحكيم «للناشر الكويتي الدكتور عبد العزيز المنصور الذي تحمل هذه الجائزة اسمه، والذي أسس مكتبة (ذات السلاسل) الكويتية قبل نحو خمسين عاماً حتى غدت اليوم إحدى أشهر دور النشر العربية وأسهمت، ولا تزال، بنشر وتوزيع آلاف الكتب في شتى العلوم والمعارف». وقال رئيس «اتحاد الناشرين»، محمد رشاد، إن «هذه الجائزة رغم حداثتها النسبية ورغم تداعيات جائحة (كورونا) على الناشر العربي، فإنها استطاعت أن تقدم نموذجاً حياً للتضامن والتآخي ما بين الناشرين العرب».