في الأفق انتفاضة مسيحية ضد “حزب الله”!
مشهد احتجاجات ليلة الثلثاء (2 آذار/ مارس) يؤشر إلى ذلك، وكذلك مشهد بكركي يوم السبت الذي سبقه. المناطق المسيحية التي شهدت تدفقاً للمحتجين إلى الشوارع بعد تخطي قيمة الدولار العشرة آلاف ليرة، شهدت أيضاً رفعاً للصوت في وجه التحالف بين “حزب الله” و”التيار الوطني الحر”. كان هذا واضحاً في شعارات المحتجين. مناطق المسلمين كانت أقل ضجيجاً، وإن لم تخلُ من قطع للطرق وإحراقٍ للإطارات. وهذا يؤشر إلى أن وجهة الاحتجاجات موصولة بضائقة موازية للضائقة الاقتصادية. القابلية المسيحية للانخراط بمواجهة مع السلطة أعلى من قابلية المسلمين بعد انفجار المرفأ. ولهذا الواقع أسبابه طبعاً، وهو أكثر تعقيداً من أن يواجه بشد عصب مذهبي موازٍ، ذاك أن المواجهة لن تكون هذه المرة على خطوط الاحتكاك المباشر بين الجماعتين الأهليتين، الشيعية والمسيحية. المناطق التي انتفضت ليلة الثلثاء كانت في العمق المسيحي، من الدورة وصولاً إلى جبيل، وهي بهذا المعنى مواجهة مباشرة بين المسيحيين، وبين ممثلهم في السلطة، حليف “حزب الله”، “التيار الوطني الحر”.
لكن يوم الثلثاء شهد أيضاً انخراطاً “خجولاً” لمسلمين سنة وشيعة في حركة الاحتجاج. هذا ما سيجعل مهمة الاحتكاك الأهلي أصعب. فشعار المحتجين على طرفي الانقسام هو ارتفاع سعر الدولار، لكن تفاوت طاقة الاندفاع إلى الشارع يكشف تفاوتاً في الحماسة للمواجهة.
الأكيد أن هناك ملمحاً مسيحياً أوضح لحركة الاحتجاجات الأخيرة في لبنان. وقد يستجيب هذا الملمح لميل انكفائي عن طلب الشراكة، هذا في حال قرر “حزب الله” أن المواجهة الأهلية هي خياره لصد الأصوات العالية المطالبة بكف يده عن الدولة، على ما ردد المحتجون في مناطق المسيحيين.
من الواضح، أن السلطة، وعلى رأسها “حزب الله”، تمكنت من ضبط الجماعة السنية. فقد ألحقت السلطة هزيمة بقادة الطائفة، وجعلتهم جزءاً من آلة فشلها. سعد الحريري يترنح بين فشله في تشكيل حكومة بالشراكة مع أحزاب السلطة، وبين الرفض المستجد لرعاته الإقليميين له. السعودية لا تريده رئيساً ولا تريده زعيماً. أما غيره من قادة الطائفة، فلا أثر لهم، ولا قدرة ولا طاقة. الفقر نخر عظام الطائفة، وحوّل أهلها إلى جماعة غير مستجيبة إلا لإغاثة لم تتحقق. إنها الجماعة الأفقر، لكنها أيضاً الجماعة الأكثر يتماً. صحيح أن هذا ما يرشحها لاحقاً للانخراط في الانقضاض على السلطة، لكن الإرهاق أثقل قدرتها على المبادرة.
المسيحيون يمتلكون أفقاً مستجداً رسمته لهم الكنيسة مؤخراً. وهو أفق يتراوح بين السعي لاحتضانٍ دولي وبين طلب الفيدرالية. ويمكنهم أن يستعيضوا عن المواجهة الأهلية المباشرة، بمواجهة السلطة ممثلة برأسها المسيحي. مؤشر هذا الاحتمال شمول الاحتجاجات مناطق العمق المسيحي، ومؤشره أيضاً غضب على التيار العوني كشفته شعارات المحتجين. أما احتمال سعي “حزب الله” إلى احتجاجات موازية في مناطق الاحتكاك الأهلي، فسيعزز المطلب الفيدرالي، وهذا ما بدأت ملامحه تتبلور أكثر. علماً أن “حزب الله” قد يذهب لاحقاً إلى المطلب الفيدرالي إذا ضمن له هذا الخيار هيمنة موازية على “الاتحاد” لا سيما في السياسات الدفاعية والخارجية. فالحزب يعرف أن لا مستقبل لعلاقته بالمسيحيين ولا بالسنة، وأن علاقة “فيدرالية” معهم قد تجدد هيمنته على الدولة “الاتحادية”.
إقرأوا أيضاً:
مناطق السنة لن تبقى ساكنة إذا ما تواصلت الاحتجاجات. وهذا ما سيجعل المشهد أكثر تعقيداً بالنسبة إلى السلطة ممثلة بـ”حزب الله”. فالاهتراء وصل إلى مستويات غير مسبوقة، ونهب الدولة يجري تحت أنظار الجميع، والعنف الممارس على المحتجين لن يكون ناجعاً في ضبطهم. فنحن نتحدث عن جياعٍ بالمعنى الحرفي للكلمة هذه المرة، وإذا كانت ذروة الجوع في مناطق السنة، فمناطق الشيعة أصابها الانهيار والاهتراء، وسيكون “حزب الله” أمام واقع ليس سهلاً حتى في مناطقه. وفي اليوم الأول لتجدد الاحتجاجات انخرط نشطاء من مدينتي صور والنبطية فيها. وحال الإفلاس امتدت لتشمل شرائح شيعية ومؤسسات اقتصادية واقراضية ليست بعيدة من الحزب وعن دوائره القريبة والبعيدة. وإذا كان الأخير قد عوض لفقراء من الطائفة بمبادرات إغاثية وإعالية، مستعيناً بما يملكه من قدرات، فإن عدم شمول هذه المبادرات الفقر المستجد بفعل تعاظم الانهيار سيفقده القدرة على مواصلة الضبط.
الأكيد أن هناك ملمحاً مسيحياً أوضح لحركة الاحتجاجات الأخيرة في لبنان. وقد يستجيب هذا الملمح لميل انكفائي عن طلب الشراكة، هذا في حال قرر “حزب الله” أن المواجهة الأهلية هي خياره لصد الأصوات العالية المطالبة بكف يده عن الدولة، على ما ردد المحتجون في مناطق المسيحيين.
الدولار لن ينضبط، وما أصاب الدولة لا سيما بعد انفجار المرفأ خلف شعوراً هائلاً بأن لا أمل بهذه السلطة. “حزب الله” لم يلتقط هذه الإشارة، وذهب في تبني هذا الفشل إلى ذروته. صار هو الدولة، وهو السلطة. تحولت المواجهة إلى مواجهة معه. إلى أن لاحت “مبادرة بكركي”. فكيف سيكون شكل المواجهة في ضوئها؟