ما من بلد في العالم كلّه يستطيع أن ينافس أفغانستان في الوطنيّة بوصفها طرداً للغزاة والمحتلّين. إنّها بين قلّة قليلة من بلدان المعمورة التي لم تعرف الاستعمار بتاتاً. لقد نجحت في ذلك بسبب شدّتها في المقاومة، علماً بأنّ موقعها الجغرافيّ سبق أن أغرى الكثيرين بضمّها وإلحاقها.
ما سُمّي «اللعبة الكبرى» في القرن التاسع عشر كان تنافساً روسيّاً – بريطانيّاً عليها. البريطانيّون، الذين بدوا مهتمّين جدّاً بعدم اقتراب الروس من الهند، غزوها في 1839. في النهاية دفعت الامبراطوريّتان المتنازعتان، وعبر حروب عدّة، أثماناً فادحة قبل أن تتوافقا، عام 1907، على عدم استعمار أفغانستان. لقد كُرّس ذاك البلد حاجزاً بين روسيا والهند لكنْ كان على الطامعين الكبار أن يبقوا بعيدين.
الاحتلال السوفياتيّ حصل في 1979 واستمرّ عشر سنوات. إنّه «سطو دبٍّ على خليّة نحل»، كما وصفه يومذاك صحافيّون غربيّون كانوا أدرى من الروس بالمقاومة الأفغانيّة. أمّا الأميركيّون فحين شمتوا بخصومهم، الذين سبق أن شمتوا بهم في فيتنام، فسمّوا أفغانستان «فيتنام الروس». ولئن ترك الانسحاب السوفياتيّ وراءه نظاماً شيوعيّاً هزيلاً متناحر الأطراف والأجنحة، فـ«المجاهدون» ما لبثوا أن أسقطوا هذا النظام عام 1992. حركة «طالبان»، التي ظهرت إلى النور بعد جلاء السوفيات وسقوط الشيوعيّين، أطاحت حكم «المجاهدين» وأقامت نظاماً رهيباً دام من 1996 حتّى 2001. الغزو الأميركيّ ردّاً على ضربة «القاعدة» في 11 سبتمبر (أيلول) 2001 أسقط «طالبان» ثمّ أقام نظاماً انتقاليّاً ظلّ إلى يومنا هذا انتقاليّاً، يوفّر الجنود الأميركيّون حمايته ودعمه. مؤخّراً كان الإعلان الأميركيّ عن الانسحاب الوشيك ففهمته «طالبان» انتصاراً لها، وهي مُحقّة في ذلك.
إذاً نحن أمام استفحال وطنيّ لازم تاريخ البلد. أمام استعداد لا مثيل له للتضحية وبذل الشهداء وتحمّل المآسي. لنتخيّل مثلاً رجلاً أو امرأة أفغانيّين وُلدا في 1979: لهذين أتاحت أفغانستان، وهو ما لا يتيحه أيّ بلد آخر في العالم، أن يكونا قد عاشا 42 عاماً متّصلة من الحرب والعنف والكوارث المكلّلة بالانتصار. العرب الذين يُكثرون التغنّي بـ «المليون شهيد» في الجزائر لا بدّ أن يُشعرهم تاريخ أفغانستان بقدر كبير من الحسد والغيرة.
لكنّ الوطنيّة الأفغانيّة في طلّتها على الخارج، صموداً ومقاومةً، ليست وطنيّةً على الإطلاق في مضمونها الداخليّ: العاصمة كابل مدمّرة. الاقتصاد منهار. نسبة اللاجئين والمشرّدين، أكانوا في الداخل أم في باكستان وإيران، من أعلى النسب في العالم. وأهمّ من ذلك أنّ العنف والحالة الحربيّة والتنازع الأهليّ جعلت الأفغان أقلّ أفغانيّةً وأكثر باشتونيّةً وطاجيكيّةً وأوزبكاً وهزارا…
لهذا ما أن أُعلن عن انتصار «طالبان» الأخير على الغزاة الأميركيّين حتّى عصف الرعب بقلوب أعداد ليست قليلة من سكّان البلد، لا سيّما في أوساط النساء والمتعلّمين والمتعلّمات الذين بدأ بعضهم يُعدّون العدّة للرحيل عن بلدهم. هؤلاء جعلهم الانتصار الوطنيّ على أميركا يلطمون كفّاً بكفّ: حلّت علينا المصيبة إذاً! هم لم ينسوا بعد حكم «طالبان» وتطبيقه الشريعة. بعضهم تذكّر أنّ الانسحاب الأميركيّ من العراق رافقه تمدّد «داعش». بعضهم الآخر ذهب أبعد في التذكّر: لقد مهّد الانسحاب الأميركيّ من فيتنام إلى ظهور «سكّان القوارب»، أي مئات آلاف الذين فرّوا من نعيم الانتصار الوطنيّ الهائل.
هكذا لم تستطع تصريحات الرسميّين الأميركيّين التي تواكب انسحابهم الوشيك أن تطمئن هؤلاء الأفغان ممّن يملكون وحدهم الكفاءات اللازمة لبناء بلدهم: مثلاً، قال أولئك الرسميّون إنّهم ضمنوا عدم عودة «القاعدة»، لكنْ ماذا عن وقوع العاصمة كابل مرّة أخرى في قبضة «طالبان»؟ كذلك قالوا إنّهم درّبوا 300 ألف عسكريّ ورجل أمن أفغانيّين كي يدافعوا عن البلد، لكنْ ماذا إذا عجز هؤلاء عن الدفاع في مواجهة «طالبان» وتفسّخوا إثنيّاً ومناطقيّاً؟
إذاً تتركنا اللوحة الأفغانيّة أمام سؤال حارق ليست وظيفة الغزاة الأميركيّين أن يجيبوا عنه: كيف يقترن التحرّر من الغازي الأجنبيّ بأوضاع لائقة بالسكّان الذين يتحرّرون، بالمرأة خصوصاً، ولكنْ أيضاً بعموم الساعين إلى الحرّيّة والمساواة والتقدّم؟ وكيف، في المقابل، يغدو في قدرة الآخرين أن يدافعوا عن أنفسهم في وجه «طالبان» وما يشبه «طالبان»، من غير استعانة بأجانب؟
حين لا يحصل هذا، ولا تكون الوطنيّة مسكونة بهذا الهمّ، لا تعود المقاومات وانتصارها شيئاً يُعتدّ به. الماركسيّون، بسبب الخلفيّة الغربيّة لأفكارهم، تنبّهوا إلى هذه المعضلة فتحدّثوا بإفراط عن «البُعد الاجتماعيّ للمسألة الوطنيّة»، لكنّهم لم يقدّموا من النماذج ما يُقنع بذلك. لاحقاً، حين لفحتْهم الشعبويّة، التحقوا بممثّلي المسألة الوطنيّة من دون بُعد اجتماعيّ.
على العموم، وللأسف، ظلّ تاريخ الوطنيّات الموغلة في المقاومة يدلّ على أنّ الكثرة الكاثرة من التجارب لا تبعث على الأمل باقتران هذا اللون من الوطنيّة بقيم تستحقّ الولاء لها والدفاع عنها. كلفته على الشعوب صارت أكبر كثيراً من كلفة الغزو والاحتلال