أقمنا في كندا نحو عامين. وصلت إلى أوتاوا في شهر سبتمبر (أيلول)، لكي أجدني في واحد من أكثر بلاد الدنيا هناء وهدوءاً وقانوناً ونظافة. عاصمة صغيرة وفسيحة على نهر «الأوتاواي»، بيوتها القرميدية مثل بيوت سويسرا، وناطحاتها قليلة، وليس فيها ساحة مركزية، لكن في قلب المدينة شوارع للمارة فقط، أجمل ما فيها شارع للمكتبات القديمة.
أدهشتني أوتاوا، بعيداً عن حرب لبنان، بعيداً عن صخب نيويورك، التي وصلت منها بالقطار البطيء، عبر غابات الشجر الأحمر في الخريف، وفوق الأنهار والبحيرات. وقررت البقاء هناك. سوف تكون كندا بلدي الجديد.
مع حلول أكتوبر (تشرين الأول)، بدأت أشعر أن الشتاء الكندي قد اقترب. وهبطت درجات الحرارة، وانقلب لون الأشجار من أحمر إلى أصفر، ثم تساقط ورقها وتعرت. لكن هذا لم يكن سوى البدايات. عندما دخلنا النصف الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) أخذ الثلج يفترش المدينة. وظهرت كاسحاته. والشاحنات التي ترمي الملح الأسود لإذابته. ولم تعد الطرقات نظيفة ولا الأرصفة. ولا عادت الثياب الشتوية التي حملتها معي تكفي لرد البرد الكندي. وتجمد نهر «الأوتاواي» الجميل، وصار ساحة للتزلج على الجليد. واختفت تماماً الورود التي تغطي ضفاف النهر بجميع الألوان. وأقفرت الحدائق العامة.
كنت أتوقع طبعاً شيئاً من هذا. الذي لم يخطر لي، ولا كنت أعرف عنه شيئاً، هو أن الناس تمشي في كندا بحذاءين: واحد مطاطي يحمي من السقوط على الجليد، وداخله الحذاء العادي الذي تدخل به البيت والمكاتب. ولذا ترى جميع مداخل البيوت في الشتاء مفروشة بالأغلفة المطاطية.
كل هذه المشاهد عادت إلي وأنا أفكر في الكتابة ضمن هذه السلسلة عن أولئك الذين قرروا السفر إلى حافتي الأرض في القطبين الشمالي والجنوبي، حيث لا سيارات ولا خيول ولا بغال: فقط الزلاجات التي تجرها الكلاب.
لا شجر، لا خضار، ولا واحات مثل تلك التي تظهر فجأة أمام أبطال الصحارى والرمال التي لا نهاية لها، لا شيء. ومع ذلك ذهبوا إلى هناك بعثة بعد الأخرى. وشاهدوا كوكب الأرض يميل عند الطرف الشمالي ويتساوى الليل والنهار. ولا يكون في السنة كلها سوى شروق واحد وغروب واحد. الأول في سبتمبر (أيلول)، والثاني في مارس (آذار). شمس طوال الصيف وظلام طوال الشتاء. وصقيع. ولا يظهر في كل هذا الفضاء الأبيض سوى الدببة القطبية الضخمة تطارد السمك حيث تضعف سماكة الجليد.