منذ رئاسة رونالد ريغان في الثمانينيّات، كان الرؤساء الأميركيّون يتقدّمون خطوة ليتراجعوا خطوتين في ما خصّ الإقرار بالإبادة الجماعيّة للأرمن عام 1915. هذا ما كان يحصل مراعاةً منهم للعلاقة بتركيّا «العضو الحليف في الحلف الأطلسيّ» و«جبهة الحلف الجنوبيّة». مؤخّراً حصل التحوّل: الرئيس الأميركيّ جو بايدن وصف المجزرةَ بـ «الإبادة الجماعيّة».
ثمّة من شكّك في قيمة الوصف هذا وفي إمكان استخدامه لردع إبادات تحصل، وقد تحصل، هنا أو هناك. بعضٌ آخر حصره في العلاقة الأميركيّة المتردّية مع تركيّا وأشكال الضغط السياسيّ عليها. بعض ثالث رأى أنّ «ثقافيّة» الموقف أكبر من «سياسيّته»، و«ضميريّته» أكبر من «فعّاليّته». وبالطبع، هناك من دان كلام بايدن لمجرّد أنّه رئيس أميركيّ.
المؤكّد، في الأحوال كافّة، أنّ الخطوة الأخيرة، رغم رمزيّتها المرجَّحة، تقدّم دعماً نوعيّاً لتحرير الوعي السياسيّ التركيّ من الإنكار. وإنجاز كهذا، إذا تحقّق، سيكون مكسباً ضخماً للقضيّة الأرمنيّة.
أكثر من فهم المسألة هذه كان وزير الخارجيّة مولود جاويش أوغلو. فبين الردود العاصفة الكثيرة لرسميّين أتراك على اعتراف بايدن، غرّد جاويش أوغلو بأنّ تركيّا لا تتلقّى درساً من أحد في شأن تاريخها، ناسباً الموقف الأميركيّ الجديد إلى الشعبويّة. والحال أنّ هذا بالضبط هو ما ينبغي أن يحصل، أي إعطاء درس في التاريخ بهدف تحرير هذا التاريخ من الإنكار. مهمّة كتلك هي بالضبط عكس ما تفعله الشعبويّة التي، بحكم تعريفها، تطمس الحقائق أو تتلاعب بها.
الإجماع التركيّ المديد حول الإنكار كان عماداه القوميّين الأتاتوركيّين ذوي النزعة الدمجيّة، والإسلاميّين الذين جمعهم بالأوّلين مطابقة الهويّة الوطنيّة والهويّة الإثنيّة – الدينيّة. الأتراك غير المسلمين كالأرمن، ومن بعدهم المسلمون غير الأتراك كالأكراد، باتوا ضيوفاً غير مُستَحَبّين على الوطنيّة التركيّة، ودفعوا غالياً ثمن الهويّة المغلقة التي لا مكان معها لأيّة هويّة فرعيّة. هذا النفي للآخر استلزم وعياً تآمريّاً كان دائماً جزءاً من الجهاز الفكريّ للأتاتوركيّين والإسلاميّين على التوالي. وفق تلك الرواية، صُوّر الأرمن والأكراد، وكذلك اليونان والسريان وسواهم، بوصفهم حلفاء لأعداء الأمّة يستحقّون، لهذا السبب، ما نزل وقد ينزل بهم.
الخرافة بدت صلبة لأنّها كانت موضع إجماع شعبيّ وسياسيّ مرصوص. هكذا استطاعت أن تغيّب أحداثاً سبقت المجزرة الكبرى وتلتها، كمذابح العهد الحميديّ في 1894 – 5 حين قُتل ما بين 200 و300 ألف أرمنيّ ومسيحيّ آخر، ثمّ ظهور المسألة الكرديّة مع تصفية الأقلّيّات المسيحيّة، لا سيّما الأرمنيّة. فمع انهيار السلطنة العابرة للقوميّات المسلمة، أنكر الأتراك في 1924 – 5 الوجود المستقلّ للأكراد وسمّوهم «أتراك الجبل». هكذا بدأت تكرّ، في 1921، سبحة الانتفاضات الكرديّة والعلويّة مصحوبة بقمعها الشرس، لتبلغ ذروتها مع انتفاضة درسيم في 1936 التي جاءت ردّاً على قوانين حكوميّة صدرت قبل عامين، تجيز استعمال العنف خدمةً لغرض «استيعاب» السكّان والمناطق.
وإذ بات الإنكار أحد مقوّمات الحياة السياسيّة التركيّة، والوطنيّة التركيّة تالياً، تحوّلت هذه السمة إلى دليل على ضعف الانتقال من الوعي الإمبراطوريّ إلى الوعي الوطنيّ الحديث للدولة – الأمّة. لكنّ رجب طيّب إردوغان هو من بدأ يُضعف ذاك الإنكار المعزّز بالإجماع الذي يراعيه العالم ويتواطأ معه. فالسلوك السلطانيّ في عهده المديد رافقه عاملان لا يخدمان الهدف المرجوّ: أنّ المجتمعات الغربيّة باتت أشدّ احتفالاً بالتعدّد الدينيّ والإثنيّ واللغويّ، وأنّ الممارسة الديمقراطيّة في تركيّا نفسها بدأت تتقلّص مع قمع الاحتجاجات في حديقة غيزي عام 2013 (22 قتيلاً وآلاف الجرحى) ثمّ التدهور المريع في أحوال حقوق الإنسان، لا سيّما بعد فشل المحاولة الانقلابيّة في 2016: سجن عشرات الآلاف وتغيير الدستور واعتقال الصحافيّين وناشطي حقوق الإنسان ثمّ تعطيل مواقع التواصل الاجتماعيّ ممّا صار حدثاً أسبوعيّاً…
في المقابل، بقي العامل الوحيد الذي يستند إليه الإنكار، موفّراً له استمرار غضّ النظر، ذاك العامل الجغرافيّ – السياسيّ الموروث عن الحرب الباردة: عضويّة تركيّا في الحلف الأطلسيّ. لكنّ إردوغان نفسه هو من تكفّل بتعطيل هذا العامل: فقد افترق عن استراتيجيّة الأطلسيّ في التقارب مع الأكراد السوريّين، وفي الحرب على «داعش»، وخصوصاً في شرائه صواريخ إس 400 من روسيا (ما يزيد في بؤس سياسته الخارجيّة أنّ علاقته مع موسكو تردّت أيضاً بسبب ليبيا كما بسبب قناة البحر الأسود).
المهمّ، في آخر المطاف، ليس ما ينويه فعلاً جو بايدن، بل قدرة الأرمن، ومعهم القوى الديمقراطيّة، على الاستفادة من الظرف الراهن للمضيّ في محاصرة سياسة الإنكار التركيّة. عشوائيّة إردوغان حليف مهم في إلزام بايدن وإدارته بما يقولانه. إنّه هديّة لا تُقدّر بثمن للحقّ الأرمنيّ.