زين العمر في ساحة رياض الصلح بين المتظاهرين. يلقي “خطاباً” في مقابلة مع مراسل تلفزيوني عن الصمود في الساحة، داعياً “كل واحد قاعد ببيته ينزل يلاقي هيدول الشباب النظاف”. فجأة تنفجر مفرقعة في مكان قريب. يهرب “البطل” على الهواء مباشرة.
هذه الحادثة تحولت إلى مادة للضحك والسخرية، وإن كان الخوف كشعور إنساني نبيل، لا يقبل غالباً السخرية، لكنه حينما يصدر عن شخص يحترف الكذب والانتهازية، ويحاضر بـ”القوة” عهداً، يصبح “الخوف” مادة هزلية. وهذا ليس الفصام الوحيد في شخصية زين العمر “الفنية”. فالرجل تمرّس في تقديم صورة تتناقض مع صورة نيغاتيفه السوداء. يظهّر صوره المزيّفة بما يخدم مصلحته وحده، دون غيره. وهو كان أعلن هجرته إلى كندا بعدما حاضر طويلاً في الناس عن ضرورة التمسّك بوطنهم والتأمّل بعهد زعيمه الذي دأب على التسويق له بصور مزيفة دائماً: ميشال عون. وزين العمر كذبة في الأصل. الاسم اختلقه طوني حدشيتي لأسباب “فنية”. والحقيقة أن الاسم مختار بعناية ليكون مقبولاً في الخليج تحديداً، في فترة التسعينات، إذ كان اسم طوني حدشيتي ليشكل عائقاً أمام دخول “السوق” الخليجية فنياً. أوجد طوني اسماً يناسب طموحه بالدخول إلى قصور الأمراء وحفلاتهم، فيما، وعلى طريقة سمير صفير، المعتقل في السعودية، يقدم صورة مختلفة عن نفسه أمام الجمهور اللبناني. يلعب دورين، بوجهين، واسمين، ونبرتين ولغتين مختلفتين.
زين العمر وسمير صفير ليسا وحدهما بين الفنانين، من يعيشان بوجهين، واحد محلّي وآخر “ذو وجه عربي”. عاصي الحلاني أطلق على ابنه اسم الوليد، تيمناً باسم الأمير السعودي، مالك قناة “روتانا”، الوليد بن طلال. وهو اليوم، بعدما قصّ محمد بن سلمان جناحي الوليد في فندق الريتز، يلجأ إلى الإمارات. يذهب إلى هناك طلباً لـ”الإقامة الذهبية”.
يفعل ذلك في عزّ انهيار البلاد، وفيما الناس، وجمهوره من بينهم، يبحثون عن لقمة العيش وعن اللقاحات لحماية أنفسهم. يذهب إلى الإمارات، يتلقى اللقاح هناك، وينال “إقامة ذهبية”، فـ”يستقر” فيها. هل قال لهم إنه “لبناني”، كما ينادي في اغنيته التي صدحت في كثير من ساحات الثورة؟ هل يلعب من دبي دور “همزة الوصل بين الشرق والغرب”، كما تصف الأغنية “اللبناني”؟
وعاصي الحلاني ليس حادثة، بل نهج، على ما قال الصحافي والكاتب الراحل جوزيف سماحة مرة في ثكنة مرجعيون. راغب علامة سار على هذا النهج. “حاضر” باللبنانيين طوال سنوات بالوطنية. غنّى، بتشويه قلّ نظيره، النشيد الوطني اللبناني. وأكثر: صادق السياسيين، على غرار عاصي وغيره من الفنانين، وقال إنه مع الناس ضد السلطة. ضد صديقته وحبيبته السلطة. باعهم هذا الكلام، سمكاً في البحر، بل في بحيرة القرعون، سمكاً ملوّثاً وميتاً. ثم، بكل ما أوتي من جماهيرية وتأثير، سوّق في عزّ أزمة فايروس “كورونا” التي تعصف بالعالم والبلاد، لترّهات تدّعي أن الفايروس واللقاح “مؤامرة”. ثم، بعدما ضرب وبكى، سبق الجميع إلى الحضن الإماراتي، وتلقّى اللقاح هناك، قبل بقية اللبنانيين. ونال هو الآخر “الإقامة الذهبية”، بلا أي خجل أو تردد. على الغالب بكى زين العمر حينما شاهد التمثيلية التي قدّمها راغب علامة. بكى تأثّراً، لأنه يطمح إلى أداء متماسك و”وقح” كالذي يقدّمه السوبر ستار.
جوزيف عطية مبتدئ في “المهنة”. لا يزال متدرّجاً في “فن” التملّق والازدواجية. لكنه وصل سريعاً إلى “الإقامة الذهبية”. هل هو “حظ المبتدئين”؟ لا يهمّ. صبغ شعره باللون الذهبي، وهرب إلى دبي. ذكِّروني، من كان يغني: “من هون ما منفلّ؟”. من “طوش” سماء اللبنانيين بأن “لبنان رح يرجع والحق ما بيموت والشمس رح تطلع تزين سما بيروت؟”. من كذب على الشباب من جيله وجمهوره وغنى لهم: “لا تقول بدي روح/ اترك وطن مجروح/ والروح لما تروح الجسد بدو يموت”؟ نعم، الأغنية لجوزيف عطية، وها هو حي يرزق بجسده المنحوت، تاركاً وطناً مجروحاً من أجل “إقامة ذهبية”. ولا عيب في الرحيل. لا عيب في الهجرة ولا عيب في اللجوء إلى بلدان قريبة أو بعيدة للعمل. لا عيب طالما أن الشخص منسجم مع نفسه، في الحد الأدنى.
هؤلاء، وغيرهم كثيرون، لم يطلب منهم أحد أن يقدّموا فناً “ملتزماً” بقضايا المجتمع وهموم الناس. ولا أن يحرروا “فلسطين”، كما تفعل جوليا بطرس من مكان إقامتها “الذهبية” في الإمارات. كان بإمكانهم، جميعاً، الاستمرار بانتاج أغنيات “خفيفة” على إيقاعات جميلة، مع فيديوكليبات مسلية، لا تستثمر بالدم والخراب. وكنا لنرقص معهم، على رغم الألم. “غصباً عنا” نرقص، على ما تقول أغنية لمحمد منير في “المصير”. نرقص مع زين العمر ومع طوني حدشيتي على إيقاعات “كزدرنا وطال المشوار” مثلاً. أو مع راغب علامة على “قلبي عاشقها والعيون”. أو مع عاصي الحلاني على “بحبك وبغار يا ويلي من الغيرة”. روتانيات بلا لف ودوران. أو نتفجّع عاطفياً مع جوزيف عطية، في سياراتنا العالقة في طوابير البنزين، بـ”لا تروحي”.
نرقص ونغني ونتفجّع، معهم أو مع غيرهم. فغيرهم كثيرون أيضاً نالوا “الإقامة الذهبية” من فنانين لبنانيين وعرب من بلدان أخرى. ولا مشكلة. طالما أن أحداً منهم لا يستثمر بالدم والخراب والجوع وقبضات الناس في الساحات. لا مشكلة. فليبحث كل عن مصلحته، في “فيء جبينه”، ومن دون أن يضع بوقاحة “حصرماً في عيون الجميع”.
ليصمت خجلاً، من ملأ خزّانات شهرته من رصيد الناس كما لو كان مصرفاً من مصارف السوء التي نهبت أرصدة اللبنانيين. فليصمتوا هؤلاء جميعاً، لأن السكوت من ذهب، في حضرة تأوهّات الجوع والمرض والاحتضار. لذا، بيعونا سكوتكم… بـ”إقامة ذهبية”!
إقرأوا أيضاً: