أحاط جون كيندي نفسه بأكثر المستشارين خبرة وعلماً. ومن بينهم المؤرخ الشهير آرثر شليسنجر، مما أوحى للناس أنه سوف يوفر عليه تكرار الأخطاء العبثية في التاريخ. ومع ذلك كان كيندي هو من ارتكب خطأ التورط في الفيتنام، ولم يأخذ في الاعتبار، الهزيمة التي لحقت بالفرنسيين في البلد الذي كان يسمى «الهند الصينية»، وكانت النتيجة حرباً أودت بالملايين وأدت إلى هزيمة دولة كبرى.
كرر الأميركيون الخطأ نفسه في أفغانستان. ففي تسرعه للرد على 11 سبتمبر (أيلول) في نيويورك قرر جورج بوش الذهاب إلى تورا بورا لمطاردة أسامة بن لادن، من دون أن يتوقف لحظة عند الهزيمة التي لحقت بالاتحاد السوفياتي وجيوشه هناك. الآن يعلن الرئيس جو بايدن أنه سوف يسحب من أفغانستان آخر جندي أميركي مع حلول شهر سبتمبر المقبل.
سوف يكون المشهد مريعاً في كابل. انسحاب من دون مفاوضات، ونظام غير قادر على الصمود في وجه «طالبان» التي يبدأ رجالها تعلم القتال في سن الرضاعة. وماذا سيحدث لـ«المتعاملين» مع واشنطن. يخطر في الذاكرة ما حدث لـ«الحركيين» في الجزائر بعد الجلاء الفرنسي، أو ما حدث للفيتناميين الجنوبيين في سايغون، بعد الانسحاب الأميركي. والعنف في أفغانستان أكثر حدة وتجذراً.
من بعيد يبدو نظام الدكتور أشرف غني، وكأنه أفضل تجارب الحكم التي مرت بالبلاد منذ اندلاع حروبها. رجل تسويات وسماح واحتواء للخصومات، وخطاب سياسي هادئ، لا مدافع فيه، ولا طائرات سيكورسكي. لكن هل هذا موقف «طالبان» ورؤيتها أيضاً؟ خيل للأميركيين أن في إمكانهم نقل التجارب الديمقراطية إلى الخارج بالطائرة، وإسقاطها بالمظلات. لكن في الحقائق أن فيتنام الشمالية وفيتنام الجنوبية ليستا مثل ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية. لقد عادتا دولة واحدة من دون حتى صراع في الصحافة. وكذلك، انفصلت سلوفاكيا عن تشيكيا بين ليلة وضحاها. فلا دماء هنا ولا انتقامات ولا صراع آيديولوجي. ليس هذا الوضع في أفغانستان، حيث النزاع الكامن، سياسي وديني، وخصوصاً قبلي. وقد تعود حال الزعامات المتقاتلة والنزاعات على السلطة إلى ما كانت عليه بُعيد الانقلاب الشيوعي على النظام الملكي.
حاولت موسكو السوفياتية أن تجعل أفغانستان دولة شيوعية تدور في فلكها، وحاولت واشنطن أن تجعلها نظاماً ديمقراطياً. ولا تزال كابل على ما هي. قاست دروس التاريخ. خصوصاً لمن لا يتعلمها.