يغفل المراسلون في تغطيتهم الحرب، «الضحايا» المنسيّة أمام هول الضحايا البشرية، خصوصاً النساء والأطفال. وتستهدف في الحروب، صغيرة أو كبيرة، المعالم الحضارية أولاً. وعندما دخل الأميركيون بغداد اتجهوا مباشرة إلى متاحفها وعبثوا فيها. وخلال الحرب اللبنانية، كان البرابرة إذا هاجموا خصماً، عمدوا أولاً إلى إحراق مكتبته، لأنه يتعذر عليه إعادة إنشائها مرة أخرى. أول ما يريده العدو هو محو ذاكرتك الثقافية وشواهدها.
في قصفها غزة، بدأت إسرائيل بإطلاق صاروخ أحرق «مكتبة سمير منصور» التي تضم أكثر من 150 ألف كتاب، وتعتبر «المكتبة الوطنية» في القطاع. وقد تلقى الغزّاويون مساعدات شتى في إعادة الإعمار وإزالة الركام. لكن من يفكر في مثل هذه الحال بالمكتبات؟ محبو الكتب.
الأستاذ سليمان بختي، صاحب «دار نلسون للنشر» في بيروت، دعا جميع الناشرين العرب إلى التبرع بما لديهم من كتب من أجل إحياء «مكتبة سمير منصور». واتفق مع رئيس «مؤسسة عامل الخيرية» الدكتور كامل مهنا على ضم الكتب إلى شحنة المساعدات الأسبوعية التي ترسلها «عامل» كل أسبوع إلى الأردن، ومن هناك تُرسل إلى القطاع.
كان الراحل الكبير عبد المحسن القطان، قد أنشأ مركزاً ثقافياً تربوياً في غزة قبل سنوات، لاقتناعه بأن الصراع مع إسرائيل، صراع ثقافي بالدرجة الأولى. وكان يؤمن أن الأثر الذي يتركه رجل مثل إدوارد سعيد في الرأي العام العالمي، يوازي قوة فرقة عسكرية. وبرغم احتفاظه بعلاقة مودة مع الرئيس الراحل ياسر عرفات، فقد فضّل هو دعم العنصر الثقافي والإنساني من القضية. وخرج من البرلمان والعمل السياسي، لينصرف إلى تطوير الحقل التربوي والتعليمي في الضفة وغزة.
ذات مرة عثرت في سوق المكتبات القديمة على كتاب بعنوان «أزهار فلسطين» وقلت في نفسي إن «أبو هاني» أحق به مني. بعد أشهر قليلة سألته كيف وجد الكتاب، قال «ترجمناه، وطبعناه وأرسلناه إلى جميع الأصدقاء. وكانت رسالة الترحيب الأولى من الرئيس جورج بوش الأب».
لا شيء يربط الناس مثل الكتاب. صدام الحضارات أو سلامها يبدأ وينتهي في الكلمة. التعاطف الذي لقيته غزة حول العالم هذه المرة، لم تستطع القبة الحديدية أن تصد شيئاً منه. 250 ألف بشري ساروا في لندن دعماً لفلسطين. وعاد الغرب برمّته يتحدث عن «حل الدولتين». وهزمت سياسة التهجير في القدس. الأخبار الطيبة تعود من جديد.