هناك نكتة قديمة عن دولة بالغة الفقر والتعاسة، يائسة من إمكان التغلّب على فقرها. حاكم هذه الدولة دعا وزراءه للتداول في حلّ يُخرجهم من بؤسهم هذا. وزير الثقافة، وهو مثقّف، اقترح ما يلي: لقد هاجمت اليابان أميركا في الحرب العالميّة الثانية فدمّرتها أميركا ثمّ عمّرتْها. هكذا صارت اليابان من أغنى بلدان العالم. لنهاجم إذاً أميركا بحيث تدمّرُنا ثمّ تعمّرُنا، وبعد ذاك نضع الفقر والبؤس وراءنا.
الوزراء كلّهم رحّبوا بالاقتراح وعانقوا زميلهم فيما علتْ البسمةُ وجهَ الحاكم. لكنّ وزير الخارجيّة، المعروف بتحفّظه الدبلوماسيّ، قطع عليهم فرحتهم حين استدرك: إنّ اقتراح زميلي وزير الثقافة ممتاز، لكنْ ماذا لو قمنا نحن بتدمير أميركا؟ في هذه الحال سوف يكون مطلوباً منّا، بحسب نظريّة الزميل، أن نعمّر أميركا فضلاً عن تعمير بلدنا المنكوب.
تصف هذه النكتة أحوال مَن يستنتجون، بناءً على فرضيّة خاطئة، جملة فرضيّات أشدّ خطأً وخطلاً. هذا ما نراه اليوم انطلاقاً من الرواية السائدة عن «الانتصار» ومن كوننا نعيش «الزمن الجميل» بفضله.
مثلاً: بدل أن يكون أحد عناوين التركيز إعادة إعمار غزّة، أقلّه لإعادة إسكان ضحايا الضربات الوحشيّة الإسرائيليّة، يصبح العنوان عن تحوّل غزّة إلى «لاعب إقليميّ».
ومن بين تلك الاستنتاجات الخرقاء والكثيرة واحد يقول: ما دمنا حقّقنا هذا الانتصار الهيوليّ على إسرائيل فلنراجع أصل اللعنة وهو السلام الذي قام في 1993. قبلذاك كان النضال ضدّ إسرائيل على أحسن حال. معه بدأت الكارثة. لنعد إذاً إلى ما قبله.
وقد يكون واحدنا معارضاً لتفاصيل كثيرة في معاهدة أوسلو، وقد يحسّ بصعوبة بالغة في الوصول راهناً إلى مبدأ الدولتين، بسبب الاستيطان وقضم الأرض. لكنّ الطموح يبقى مشروعاً جدّاً لتوظيف الحرب الأخيرة لأهداف سياسيّة كمحاولة تذليل الصعوبات وتحسين شروط التسوية بما يجعل الفلسطينيّين يكسبون أرضاً أكثر وسلطة أكبر ممّا أعطتهم أوسلو. عناوين كالانتفاضة المدنيّة والاستفادة من تحوّلات الرأي العامّ العالميّ وإعادة توحيد الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة ومخاطبة الرأي العامّ الإسرائيليّ هي ممّا يمكن طرحه في هذا المجال وممّا يمكن الاشتغال عليه. هذا صعب جدّاً؟ نعم، لكنّه ليس مستحيلاً.
أمّا العودة إلى ما قبل تسوية 1993 فليست فقط عودةً إلى «صفر أرض» و«صفر سلطة» وإلى تعويل مطلق على الخارج. إنّها أيضاً عودة إلى زمن الحروب الأهليّة العربيّة – العربيّة (الأردن 1970 ولبنان 1975 – 6) وإلى الارتهان المفروض على الفلسطينيّين للنظام السوريّ ولحروبه التصفويّة عليهم. إنّها كذلك عودة إلى مناخات كالتي أطلقها غزو لبنان في 1982 وطرد منظّمة التحرير الفلسطينيّة إلى تونس، وإلى ارتكاب الوقوف إلى جانب صدّام حسين في غزوه الكويت وما أدّى إليه ذلك من نتائج كارثيّة على الأصعدة جميعاً، خصوصاً الصعيد الفلسطينيّ.
لكنّ تفكيراً كهذا لا يرى العالم سوى بدايات ونهايات، أو نقاءً كاملاً (من السياسة والواقع والعقل) يقابل التلوّث بالخيانة: «قبل أوسلو نضال ومقاومة، بعدها انحراف واستسلام». أمّا أن ينطوي التاريخ على عمليّات معقّدة تأخذ في اعتبارها توازنات القوى وحياة السكّان ومصالحهم، وتغيّر وتتغيّر بموجب ذلك، فهذا ما يقع خارج الوعي المذكور.
شكل آخر يستحضره هذا المنطق: إنّ المشكلة الأصليّة تعود إلى 1948 وليس إلى 1967، ولأنّها هكذا بات ينبغي أن نعيد الاعتبار إلى شعار تحرير فلسطين التاريخيّة إبّان الانتداب البريطانيّ.
هذا صحيح بوصفه تأريخاً حاولت الصهيونيّة طمسَه، لكنّه ليس صحيحاً بوصفه سياسةً وممكنات واقعيّة. وفي النهاية، متى كانت أصول الأشياء تحكم مسارها المستقبليّ حكماً مطلقاً وأحاديّاً؟
لقد كان الانتقال من شعار تحرير فلسطين 1948 إلى مبدأ الدولتين مسيرة طويلة من الألم والعذاب والتضحيات. خلال تلك المسيرة هُزمت تجربة ضخمة في حجم الناصريّة المصريّة، وتعرّض تحالف استراتيجيّ في حجم التحالف مع الاتّحاد السوفياتيّ إلى امتحانات رسب فيها، ونشأت ثورة فلسطينيّة خاضت حروباً ووجّهت ضربات وتلقّت أخرى… بهذا المعنى، لم يأتِ الانتقال المذكور كخيار فكريّ أو نظريّ قابل للأخذ والرفض، ولا كان تحوّلاً في المزاج أملته رغبات عاطفيّة أو نزوات خيانيّة وشيطانيّة.
أمّا القول اليوم بالعودة إلى تحرير فلسطين 1948 فيما أحوال الفلسطينيّين، أوّلاً، وأحوال العالم العربيّ، ثانياً، على ما هي عليه، فلا يوجب إلاّ نقل القائل إلى المصحّ الأقرب.
إنّ احترام الألم والمعاناة الفلسطينيّين يستدعي معاملتهما بصدق، ومصارحة أصحابهما بالحقائق كما هي. غير ذلك كذب على الفلسطينيّين قبل أن يكون كذباً على سواهم.