بنى الطباخ التركي بوراك شهرته على التصعيد الخيالي للدسم، محشي ورق العنب في جوف خروف، عجل مشوي بكامله، أكبر سمكة في العالم، وأطول إصبع كفتة. يستخدم أواني طبخ بالغة الضخامة، في اتكاء واضح على خيال ولائم السلاطين وألف ليلة. التركي الشهير الآخر نصرت غوكشيه لم يتخل عن فكرة الوفرة ذاتها، وأضاف ألعابه البهلوانية بالسكاكين عند تقطيع اللحم، لكنه صار معروفاً عبر العالم بـ«شيف الملح» بانياً شهرته على استعراض صغير يقوم به في صالة الطعام. يضع نصرت الطبق على المائدة، ثم يقوم برش حصى الملح عليه لحظة تقديمه على هيئة مطر يُفلته من بين أصابع يده المرفوعة، فيتساقط متحدراً على ذراعه، وهكذا يتمكن من تمليح الطبق ومفرش الطاولة والزبون!
هذه المزحة تلقى استهجان الممسوسين بالنظافة، وأصبحت محل انتقادات بوصفها سلوكاً غير صحي، لكن من يتقبلون هذا الذوق العامي أكثر عدداً، وإلا ما صار الفتى صاحب الطفولة الشقية نجماً يؤم مطعمه نجوم في كل مجال، ليس بوسعهم الابتعاد عن حياة الاستعراض حتى في لحظات تناول الطعام، توضع أمام الواحد منهم فخذ عجل، لإشباع نهم تاريخي ربما، ولنا أن نتصور شكل ما يتبقى على مائدة كتلك!
ينهض كتش الطعام على أعمدة ثلاثة للغش: المالح والحار والدهني. وتزداد الحاجة إلى تصعيد الغش في مطاعم الكتش الشعبي لإخفاء المستوى المتدني للمكونات.
بين كُتاب الرواية نجوم عالميون لمثل هذا البذخ يؤلفون روايات ضخمة، لإشباع نهم تاريخي لدى قراء اكتشفوا متعة القراءة متأخرين.
وأحب في الحقيقة الالتزام باللفظ الأجنبي «كتش» دون ترجمته إلى «العامي» للابتعاد عن الظلال الحسنة للعامية في الثقافة العربية.
يضرب الكِتش حصاراً محكماً حول الذوق ويخنقه. كتش في الأدب، في الموسيقى، في الرسم والنحت، في الطعام، في الملابس، وفي زينة البيوت. وقد تكفلت أميركا مبكراً بنشر عامية الطبخ، ولحقت بها الصين في ترسيخ الكِتشية في زينة البيوت: تماثيل بلاستيكية وجصية قبيحة وزهور بلاستيكية والكثير من الإساءات الكتشية وأقساها الإساءة إلى رقة الدانتيلا، بتقديم مفارش طاولات من البلاستيك في صورة الدانتيلا، مهيلة التراب على كامل تاريخ من الرقة.
في الشعر نبل يجعله محصناً ضد الكتشية، حيث تموت القصائد من هذا النوع لحظة ولادتها، لكن الرواية تقبل، وكان لكل ثقافة كتشها الروائي، لكن ظاهرة الأكثر مبيعاً كانت مقيدة بحدود بلادها.
وخلال العقود الأخيرة تكفلت العولمة برواج الكتش الروائي العابر للثقافات الذي يستخدم ثلاثية الكتش ذاتها مفرطاً في الغرابات والألغاز والمعلومات. وقد تمكنت المركزية الغربية من نشر كتشها في جميع أنحاء العالم، وكما تفعل المركزية الغربية دائماً، كان لا بد من الإفساح لنماذج من ثقافات أخرى، خصوصاً من بلاد شرق آسيا الناهضة، تتولى الترويج له، ويغزو بقية العالم بموجب هذا الاحتضان الغربي.
المؤسف أن الإقبال على الكتش لا ينبع من رغبة في القبح، بل من الرغبة في الجمال، دون معرفة الطريق إليه بسبب قصور في الإمكانات الثقافية والتربية الجمالية.
يمنح كُتاب «الكتش» العالميون قراءهم عجولاً مشوية وتلالاً من المحشي داخل الخراف. هناك من يعتمد على الوفرة من الخيال المحلق كما لدى هاروكي موراكامي، على نغمة واحدة دون أي تقدير للحظات الضعف الواقعي التي تساهم في جعل هذا الخيال مقنعاً. وهناك من يعتمد على الألغاز والرموز مع كمية ضخمة من المعلومات التاريخية والفنية كما لدى دان براون. يندر أن تجد في هذه الولائم الروائية شخصية عادية كالتي نراها في الحياة.
ويقبل ملايين القراء بشهية كبيرة على مثل تلك الروايات سميكة الكعب بغراباتها المتدافعة بلا رحمة، ويستقبلون رذاذ الملح على رؤوسهم بسعادة غامرة.
كانت تجاربي في قراءة هاروكي موراكامي، سبباً في إحجامي عن متابعة خطوط الإنتاج الشبيهة، لكن دون اطمئنان كامل: ماذا لو كان هذا الكاتب الجديد واسع الانتشار وأصيلاً في الوقت نفسه؟ راودني هذا السؤال بخصوص كارلوس زافون عندما ذاع اسمه، لكنني لم أقرأه إلا على وقع خبر رحيله المفجع متأثراً بوباء «كورونا»، في يونيو (حزيران) الماضي.
وجدت في طريقي روايته الشهيرة «ظل الريح» (ترجمة معاوية عبد المجيد، «مسكلياني»، تونس 2016). بطلها وراويها دانيال، يروي بصيغة الماضي عن نفسه عندما كان صبياً يتيم الأم لم يتم عامه الحادي عشر. والده تاجر كتب قديمة غامض وصامت وحزين لم يبرأ من موت زوجته. يصحب دانيال في غموض ساعة الفجر، إلى مكان لا ينقصه الغموض ويحذره من إفشاء سر ما سوف يراه لأي مخلوق.
ويجد الراوي نفسه في مقبرة الكتب المنسية، ويلتقط رواية ساحرة بعنوان «ظل الريح» لا أحد يعرف شيئاً عن مؤلفها خوليان كاراكاس، وتبدأ رحلة هذا الصبي الأعجوبة في البحث عن سر الرواية الأعجوبة عبر سرد لا يعترف إلا بالأعاجيب!
يعجز الأب عن مساعدة دانيال في بحثه حول الرواية ومؤلفها؛ فيأخذه للقاء شيخ المهنة جوستابو برسلوه وهو رجل غامض آخر. ثري يعمل في بيع الكتب القديمة للمتعة المحضة، يصفه الراوي هكذا: «ودائماً ما كان غليونه المطفأ، الذي تفوح منه أزكى النكهات الشرقية، يتدلى من شفتيه، ويفضل أن يعرف نفسه باسم الرومانسي الأخير، ويتباهى بأنه من نسل الشاعر اللورد بايرون، رغم أن أصوله تتحدر من نسل كالداس دي منونبوي. ولعله يرتدي زي الداندي الرائج في القرن التاسع عشر كي يبرر نسبه البريطاني: إذ كان يختال بشال من الحرير وحذاء ملمع بالطلاء الأبيض، ونظارة مفردة لا معنى لها، شاعت الأقاويل بأنه لا ينزعها حتى عندما يذهب إلى الخلاء». بورتريه باروكي مفعم بالمبالغات يرسمه الصبي المعجزة لرجل يجمع بين إثارة الشرق في تبغه وجاذبية المقتنيات الأثرية في ملابسه.
يُعجب جوستابو العجيب بالصبي الأعجوبة ويضرب له موعداً جديداً لمزيد من الحديث عن الرواية ومؤلفها، في ساحة الجامعة، ولا نعرف ضرورة المكان هنا؛ فالرجل ليس أستاذاً جامعياً!
وفي الموعد يصل جوستابو وفي يده أعجوبة أخرى، هي ربيبته وقريبته كلارا؛ عمياء في العشرين يقدمها للصبي بوصفها خبيرة في خوليان كاراكاس وآثاره البائدة!
تفتن بجمالها صبي الحادية عشرة فيعرض عليها أن يقرأ لها، وتوافق فيذهب في الموعد إلى بيت جوستابو. ونرى وصف البيت بعين الصبي على هذا النحو: «كانت الشقة التي تشغل الطابق الأول كله متعددة الممرات والصالات والشرفات الفسيحة التي بدت لي كنسخة مصغرة عن متحف الإيسكوريال. كما بدا واضحاً أن الدون جوستابو مولع بجمع التماثيل واللوحات الفنية والدينية وحتى النباتات والحيوانات، ناهيك عن الكتب والمخطوطات العريقة وأي نوع من المنشورات النادرة. تبعتُ برناردا (الخادمة التي قادته من الباب إلى حيث تجلس كلارا) مروراً بإيوان مليء بالنباتات المورقة والأزاهير الاستوائية يبدو كحقل زراعي حقيقي تتسلل من ثناياه أضواء مزركشة، وفي أجوائه تطوف أنغام بيانو واهنة الوقع. كانت الخادمة تتقدم بين الأوراق الكثيفة وتحرك ذراعيها كمنجل في يدي فلاح صبور. وأنا كنت أتبعها وأنظر حولي، رأيت نحو ست قطط وببغاوين كبيرين ألوانهما تخطف الأبصار، وقالت لي إن برسلوه أسماهما أورتيغا وغاسيت. وجدت معذبتي بانتظاري في صالة عند حدود تلك الغابة الاصطناعية، ترتدي فستاناً ضبابياً من قطن سماوي وتجلس قبالة بيانو تحت نور قنديل خافت. كان في أدائها شذوذ عن اللحن وخطأ في الوزن لكنني أعجبت حقاً بتلك السيريناد التي عزفتها» طال الاقتباس، لكنه ضروري لبيان عدد الأعاجيب التي يحتويها المشهد وقد رآها ابن الحادية عشرة بعين صقر لحظة دخوله البيت واعياً بقيمة التحف واللوحات ونفاسة الكتب وبالموسيقى وقواعدها!
تمضي الوقائع على هذا النحو في خلطة من مبالغات الحب الرومانسية ومبالغات الخوف القوطية، مع أعداد غفيرة من اليتامى، بسبب تساقط الآباء والأمهات، على وقع أقدار غريبة أو في ساحات القتال وظلام زنازين الأطراف المتنازعة في الحرب الأهلية الإسبانية.
عودة ظافرة إلى مبالغات روايات فروسية القرون الوسطى التي اعتقد ميلان كونديرا ذات يوم أن سرفانتس كتب نهايتها بروايته التهكمية الخالدة.
وكما يتعايش الكتش العولمي إلى جانب المحلي في الطعام، يتعايش الكتش الروائي المحلي والقومي إلى جانب العالمي. يهتدي المؤلف المحلي بالأجنبي ويزايد عليه في تصعيد الدهون والملح والحار.
في كل الأحوال «مؤلف الكتش» ماهر في صنعته، يعرف مقادير طبخته الباذخة التي تنهك قراءه ولا تدع لهم لحظة كي يتساءلوا عن الصدق الفني فيما يقرأون، وخطورته في استبداده بقرائه، يتحول إلى زعيم لمحفل مترابط، يتبعه قراؤه، ولا يمكن أن يسمحوا بانتقاده، ناهيك عن أن يجربوا شكلاً آخر من القراءة.
ومن هذا الباب يختلف «مؤلف» الكتش عن «الكاتب» الساذج الذي يكتب ما يعرفه؛ فتلاقي روايته العذبة قليلة القيمة رواجاً بالمصادفة، ويفاجأ هو نفسه بنجاحها الذي قد لا يكرر، وحتى لو استفاد كاتب ساذج من ملاحظات النقاد حول أسباب نجاح روايته وحاول تكرار الطبخة فلن ينجح، لأنه لا يمتلك ثقافة صانع الكتش ولا مهاراته الشريرة!
وتبقى فضيلة السذاجة أنها أقل استبداداً بمستهلكها، لا تتسبب في الإدمان، ويمكن لقراء الروايات الساذجة أن يتمردوا ذات يوم على سطحية الطعم ويبدأوا سعيهم نحو النص الحساس الذي يُضمر الكثير من ظلال المعاني والطعوم والروائح والألوان.
«بيت التلمساني»… منتجع للعزلة والكتابة في مصر
بعيداً عن ضجيج المدينة، يقع «بيت التلمساني» الثقافي على بُعد ساعة من العاصمة المصرية، يستقر بطرازه الريفي الحالم، مُتوسطاً العشب الأخضر وأشجار «البوانسيانا»، وسط براح الصحراء، وتنتصب على بابه لافتة تحمل اسم عائلة أحبت الفن والأدب: «التلمساني».
تقول مؤسسة البيت وصاحبة فكرته الكاتبة والأكاديمية المصرية مي التلمساني، إن «تجربة الإقامة في البيوت المُخصصة للتفرغ للكتابة دائماً ما تترك ذكرى حميمة في وجدان كل من عاشها، بما تتيحه من عزلة حميدة، وخبرات جديدة، وتخفف من الضغوط اليومية لإنجاز الكتابة»، بالإضافة إلى أن الفكرة تمثل نوعاً من الوفاء لروح والدها المخرج الراحل عبد القادر التلمساني أحد رواد السينما التسجيلية في مصر.
وتتذكر صاحبة رواية «هليوبوليس» تجربة إقامتها قبل سنوات في بيت للتفرغ للكتابة بمنطقة جبلية في إيطاليا، وتجربة أخرى في بيت بمدينة فرنسية، مستعيدة أطياف الكتابة بهما. وتحت وطأة الشغف بالفكرة اقتنت كتاباً مُخصصاً عن أماكن الإقامة الأدبية في أوروبا وشروطها، لتجد أن العامل المُشترك بها جميعاً هو العزلة التي يتيحها للكاتب، باعتبارها من أولويات احتياجاته، وهاجسه الحقيقي في أن ينفرد بذاته وأفكاره بعيداً عن تفاصيل الحياة اليومية، والأعمال المنزلية وغيرها، فتبلورت لديها، عبر تجربتها الذاتية، وبحثها الدؤوب في مُقومات تلك البيوت، فكرة تأسيس «بيت» أو «مُعتكف للكتابة» في مصر.
تطورت الفكرة حتى تجسدت وصار بيت التلمساني كياناً قائماً غير ربحي، هدفه الوحيد توفير مكان لاستضافة الأنشطة الثقافية، وبشكل خاص استضافة العاملين في مجال الكتابة للتفرغ لمشروعاتهم التي تتطلب بعض الهدوء والعزلة.
وتأمل مي أن تنهي إقامتها في كندا وعملها الأكاديمي هناك حتى تتفرغ للبيت، الذي من المؤمل أن يلعب دوراً في سد فراغ قائم داخل الوسط الثقافي، بتوفير فسحة للكتاب للاختلاء مع أنفسهم وكتاباتهم. تقول عن ذلك «الكاتب إنسان منتج يستحق الدعم من خلال توفير مكان وفضاء ملائمين للإبداع بعيداً عن الحياة اليومية وضغوطها، فالحركة الثقافية بكل زخمها وثرائها في مصر يغيب عنها هذا العنصر البسيط والمؤثر». «بيت التلمساني» سيكون مفتوحاً لكل العاملين في مجال الكتابة والإبداع، سواء في الأدب، أو النقد، والترجمة، والسيناريو، وستكون الإقامة فيه ما بين أسبوعين إلى أربعة أسابيع. ولتحقيق ذلك، تم تأسيس لجنة استشارية للاختيار من بين المتقدمين للإقامة في البيت، من مصر ومختلف دول العالم، تضم في عضويتها بالإضافة إلى مي التلمساني، الناقدة شيرين أبو النجا، والكاتبة سحر الموجي، والدكتور مالك خوري، والناشر محمد البعلي.
تبرز داخل البيت ملامح من تاريخ عائلة التلمساني، لعل أبرزها مكتبة والدها المخرج الراحل، بالإضافة لمكتبة الكاتب الراحل إدوارد الخراط، وجانب من مكتبة مي التلمساني، التي تقول: «إن فكرة أن يكون البيت (مُحاطاً بالمكتبات) من الملامح الرئيسية التي كانت حريصة على تحققها في بيت مُخصص لإقامة الكُتاب، كما تحمل معظم جدران البيت لوحات شهيرة لعدد من الفنانين التشكيليين المصريين».
لم يسلم «بيت التمساني» من أعباء «كورونا»، فتم تأجيل افتتاحه أكثر من مرة، إذ كان من المفترض أن يكون افتتاحه في مارس (آذار) العام الماضي. إلا أن البيت سيبدأ أول برامجه عملياً من خلال ورشة «الكتابة والموضة» التي ستقدمها مي التلمساني حول «القصة القصيرة وسيناريو الأفلام القصيرة من منظور الموضة والملابس»، في الفترة من 25 يونيو (حزيران) وحتى 2 يوليو (تموز) المقبل، كما ستبحث الورشة في تاريخ الملابس، والأقمشة، والألوان، والقيم الجمالية، وتحولات الذوق الخاص والعام، ومحاولات التعبير عن الذات من خلال الملبس. وتتم الورشة بالتعاون مع دار «المرايا» للإنتاج الثقافي، ومن المفترض أن يقوم المشاركون بزيارة «بيت التلمساني» خلال عمل الورشة لتكون هي الزيارة الأولى للبيت.
تقول مي التلمساني حول هذه الورشة، «أسعى عبر نشر كتاب يضم قصصاً قصيرة وسيناريو فيلم قصير ملمحهما العام هو الموضة وعلاقتها وتأثيرها على مسارات الأعمال الأدبية السردية إلى طرح أفكار ورش أدبية متخصصة تُركز على ملمح معين قد يخرج بنتائج أكثر تكثيفاً من الأفكار العامة المرتبطة بورش الكتابة»
ومن المنتظر أن يستقبل «بيت التلمساني» كاتباً فرنسياً في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل ليكون أول كاتب أجنبي يقيم في البيت، وذلك بالتعاون مع «المعهد الثقافي الفرنسي» في مصر. وأحد شروط قبول الكُتاب الأجانب هو أن يكون المشروع المتقدم به للإقامة الأدبية بالبيت مرتبطاً بالثقافة المصرية أو العربية. ومن المنتظر أيضاً أن يستقبل البيت نحو ثلاثة كُتاب بشكل مُتزامن، كأن يجمع البيت بين كاتب قصة وكاتب سيناريو، أو كاتب أجنبي ومترجم عربي، مما يمكن أن يثري الكاتب، بالإضافة للصفاء الذي يتيحه المكان.