إبّان حرب غزّة الأخيرة سُمعت في لبنان أصوات كثيرة كان بينها صوتان لافتان، أقلّه على وسائل التواصل الاجتماعيّ: واحد لا يريد أن يتعاطف بالمطلق مع الفلسطينيّين بحجّة لبنانيّته، وآخر يريد أن يفتح الحدود اللبنانيّة للحرب على إسرائيل بحجّة حماسته لقتالها أو بحجّة عروبته وإسلامه…
الصوتان هذان لا يكتمان أصولهما في الطوائف والجماعات التي يستمدّان منها ومن حساسيّاتها معظم «الأفكار» والمواقف. كذلك لا يغيب الماضي النزاعيّ، القريب والبعيد، الفعليّ والمؤسطَر، عن «الحلول» التي يطرحها أصحاب الصوتين للمستقبل المأمول. هكذا ينجح التنازع الأهليّ وأحقاده المتراكمة في استنطاق حالتين خطيرتين، بل في إعادة نفخهما بعد الضمور الظاهريّ والشكليّ الذي أصابهما في السنوات الأخيرة:
حالة لبنانيّة لا تريد أن تُعنى بما يدور خارجها، كما لو أنّ لبنان يقيم على كوكب منفصل، يُراد له أن يؤثّر كثيراً شرط أن لا يتأثّر أبداً. لكنّها، فوق هذا، لا تريد أن تتعاطف مع ضحايا القصف والموت والألم حتّى لو كانوا أطفالاً.
وحالة لبنانيّة مضادّة لا يعنيها ما قد يصيب وطنها المفترض من جرّاء زجّه في حرب نعرف مسبقاً نتائجها الكارثيّة، ما دام أنّنا مدعوون إلى وليمة قتال إسرائيل التي لا تُقاوَم.
الحالة الأولى تهجس بوطن بلا قلب. قسوته قابلة لأن ترتدّ عليه هو نفسه. الحالة الثانية تهجس بقلب بلا وطن. حماسته تبدأ تدميراً لسواها وتنتهي تدميراً لنفسها.
لكنّ انبعاث الماضي، بمخاوفه الجدّيّة كما بأساطيره، هو ما يبقى القاسم المشترك الأبرز بين الحالتين المتناقضتين.
والماضي، كما نعلم جيّداً، يغدو قابلاً للانبعاث بقوّة حين لا ينجح الحاضر (1976 حتّى اليوم) في تبديده أو في تجاوزه. واقع الحال أنّ حاضراً كالذي نعيشه ليس سوى إعادات تأسيس متواصلة لاحتقانات الماضي العديدة. فوق هذا، فصوتا الماضي القويّان ينهلان من مظلوميّتين جدّيّتين وغير قابلتين للتجاهل: واحدة مسيحيّة والأخرى فلسطينيّة.
أمّا الأولى فتخاف فعلاً على وطن وصفه رموزها بأنّه الملاذ والملجأ، واختارت أن تنأى به عن السلاح والصراعات المسلّحة. مع هذا، راعَها أنّ رأيها لا يُسأل في المنعطفات النزاعيّة الكبرى، وكان عليها أن تتحمّل انتهاك التنظيمات المسلّحة وكسر سيادة البلد مع اتّفاق القاهرة في 1969، ثمّ جاءها «الوعد» بأن تكون مدينة جونيه المسيحيّة «الطريق إلى القدس». وأمّا الثانية فعانت وطأة العنصريّة اللبنانيّة عليها منذ اللجوء الفلسطينيّ في 1948، وهو ما يستمرّ حتّى اليوم، رغم التناقص الهائل في أعداد الفلسطينيّين في لبنان. هذا الغضب كان يعزّزه دوماً شعور الفلسطينيّين بأنّ «إخوانهم» العرب، وفي عدادهم اللبنانيّون، يكذبون عليهم ويستخدمونهم لأغراضهم، أو أغراض أنظمتهم.
وقريباً من هذين الصوتين، حيث تختلط المظلوميّة بالظالميّة، كان «حزب الله» الذي، ولحسن الحظّ، يواظب على عدم الانجرار إلى «معارك المصير» حين لا يكون هو الطرف الذي يخوضها، أو يحتكر استثمارها، أو حين لا تكون لإيران مصلحة أو رغبة في التورّط المباشر بها. وهذا غالباً ما تكون عليه حال إيران. هكذا نأى «الحزب» بنفسه عن محاولات بائسة ودعوات أكثر بؤساً «لاجتياح الحدود والاشتباك مع العدوّ الإسرائيليّ» (وكان لافتاً بالمناسبة أنّ الذين يريدون هذا الاشتباك من حلفاء «الحزب» العقائديّين لم يدعوه إلى ذلك، ولا حاولوا إحراجه فيه).
على العموم، لا يزال من الممكن حشر كلّ شيء في جبّة الموضوع الفلسطينيّ: مظلوميّات وأكاذيب وانتهازيّات وطموحات شخصيّة وصراعات ذات أسباب مختلفة، وإمداد العلاقات والروابط التي يُفترض أن تضعف شرعيّتها بالشرعيّة المطلوبة، ومنح فُرص جديدة لمن سبق أن أُعطي ما يكفي من فرص، وتصديعٌ لكلّ نصاب سياسيّ يمكن أن يُبنى عليه شيء واعد. وباختصار، تحميل غزّة، وفلسطين عموماً، بمسائل يجدها القليلون مُحقّة ويراها الكثيرون غير مُحقّة، لكنّ المؤكّد أنّ إضرارها بلبنان أكبر كثيراً من دعمها لفلسطين.
وبالمعنى نفسه، لا يزال لبنان، المأزوم في أحواله وغير المتصالح مع ماضيه، مصدراً خصباً لاشتغال تلك المعادلة البائسة والمكلفة التي يندفع فاعلوها إلى قسوة فائضة على النفس وعلى الغير.
بعد هذا، هل نطلب الكثير حين ننتظر زمناً يحمل فيه التضامن مع فلسطين معاني أخرى، كأنْ يكون تضامناً مع المستقبل، ومع بناء المجتمعات العربيّة ودمقرطتها وازدهارها، حيث لا يأتي الخوف للمسيحيّ ممهوراً باسم فلسطين، ولا تحلّ العنصريّة على الفلسطينيّ لأنّه من فلسطين.