حدث ذلك طبعاً قبل أن تغلق «كورونا» الجامعات والمحاضرات والأمسيات الشعرية. وأنا من الذين يحبّون الشعر مسموعاً، لا صامتاً. وأفضّله صامتاً فقط عندما يكون الإلقاء منكراً، أو الشعر نكيراً. أو كلاهما، كما اتفق لي غير مرة. وعندما كنت أذهب لحضور أمسية شعرية لا أعرف صاحبها، أتعمد الجلوس في مقعد خلفي عند باب الخروج، بحيث أستطيع الهروب من دون التلبس بجرم الافتقار إلى قدرة التحمّل. ويخيّل لبعض الشاعرين أحياناً أن الإلقاء الجهوري، أو الحنجوري، يغطي على صف الكلام، لكنه في الحقيقة يفعل العكس تماماً؛ حنجرة فخمة ورصف رثيث، والفرار خير من الصبر، فقط في هذه الحال من البؤس وسوء الطالع.
وما أجمل الدنيا عندما تجتمع للشاعر روعة القصيد ورنّة الأوبرا. وقد اجتمعا لنزار قباني، ومحمود درويش، وأدونيس، وسعيد عقل، والتركي العظيم ناظم حكمت، صاحب «باقة بنفسج يوم الأربعاء». وكان ناظم شيوعياً، فلما وصل إلى ميناء بيروت لإقامة أمسية في «الندوة اللبنانية» منعته السلطات من الدخول. فما كان من سعيد عقل إلا أن اقتحم الميناء وأمسك ناظم من كتفه ودخل به الجمهورية اللبنانية متجاهلاً اعتراضات الأمن العام والأزمة مع الحكومة التركية.
قبل «كورونا» بقليل، وجّه لي المغترب حبيب جعفر، دعوة لا تُثمّن. قال إن صديقه الشاعر النيجيري وول سوينكا (نوبل 1986) سوف يقيم أمسية شعرية في «الوست هول» (الجامعة الأميركية) بدعوة منه، فهل يهمني الحضور؟ كانت العادة من قبل أن يدعونا حبيب، مع الدكتور مروان إسكندر إلى الغداء في مطعم السيدة سامية، التي اختارت بكل حكمة، الخروج من العمل في الصحافة إلى العمل المجزي في «الصحانة» (أي الصحون والأطايب).
ذواق حبيب في الدعوتين. ولقد ذكّرنا وول سوينكا بأيام ناظم حكمت، يوم كان أصحاب القامات العالمية مثله ومثل الشاعر السوفياتي يفتوشنكو يحملون قصائدهم لكي يلقوها في حضن بيروت، وكأنما لا ينقصهم سوى اعترافها وباقات زهورها. وكان يأتي المدينة ولا يلقي، أمير الشعراء أحمد شوقي. فقد كان يترك لغيره أن يقرأ شعره، أو أن يغنيه. وكان محمد عبد الوهاب دائماً إلى جانبه، يضيف إلى إمارة الشعر تاج الموسيقى. وكانت تلك حسرة شوقي؛ حنجرة غير ذات رنين.