الولايات المتّحدة الأميركيّة، وفق إعلان البيت الأبيض، سوف تشتري نصف مليار جرعة فايزر وتتبرّع بها لـ 90 دولة في العالم. رئيسها جو بايدن دعا «ديمقراطيّات العالم» أن تفعل الشيء نفسه. بريطانيا ما لبثت أن تجاوبت بتقديم 100 مليون لقاح.
لنتخيّل للحظة لو أنّ الصين أو روسيّا هما الدولتان اللتان أقدمتا على عمل كهذا! المؤكّد أنّ الخبر كان ليُكتب، في أجواء الممانعين العرب، باحتفاليّة صارخة تؤكّد الفارق الهائل في الحساسيّة الإنسانيّة والأخلاقيّة بين «غرب إمبرياليّ» و«دول مُحبّة للسلام وللشعوب». أمّا وأنّ الولايات المتّحدة هي التي تبرّعت باللقاحات، فالتعليق المُمانع الذي يمكن التكهّن به سيكون من نوع: هذا غيض من فيض ما نهبوه منّا، نحن العرب والمسلمين.
لنتخيّل أبعد قليلاً: اليوم تحوم الشبهات وتُجرى التحقيقات بشأن مسؤوليّة الصين المحتملة، والبعض يقول المؤكّدة، عن ظهور جائحة كورونا. ماذا لو أنّ الولايات المتّحدة، لا الصين، كانت هي مصدر الجائحة؟
لا يعوزنا الكثير من الخيال كي نتخيّل التعليق على حدث كهذا: «… وهل تتوقّعون إلاّ الشرّ من الذين أبادوا الهنود الحمر وأحرقوا فيتنام ودعموا إسرائيل؟».
أمّا أن نتخيّل أميركا أو بلدان أوروبا الغربيّة وهي تُنزل بمسلميها عُشر ما تُنزله الصين بمسلميها الإيغور، فهذا ما ينبغي أن لا يبلغه جموحنا التخيّليّ.
أمور كهذه لم تحصل بالتأكيد، إلاّ أنّ تاريخ المواقف المعهودة من أمور مشابهة حصلت فعلاً يسمح بتكهّنات كهذه. بيد أنّ حدثاً كبيراً حصل قبل أسبوعين لم يحظ بأيّة تغطية إعلاميّة عربيّة تُذكر:
الخبر يقول: إنّ مجموعة الدول السبع الغنيّة (أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا وإيطاليا واليابان، فضلاً عن الاتّحاد الأوروبيّ) توصّلت، في اجتماع وزرائها في لندن تمهيداً لمؤتمر قادتهم، إلى اتّفاق «تاريخيّ» لفرض ضريبة 15 في المائة «على الأقلّ» على الشركات متعدّدة الجنسيّة، أي على مائة شركة عملاقة بما فيها «أمازون» و«فيسبوك»…
ومعروف أنّ التهرّب من الضرائب بات من السمات الاقتصاديّة الملازمة لزمننا والمسبّبة لضعف العدالة فيه. شركة «أبل»، مثلاً لا حصراً، تخوض راهناً معركة قضائيّة كي تتجنّب دفع 13 بليون يورو.
ما هو أبعد من مكافحة التحايل على الضرائب أنّ هذا القرار، في حال النجاح في تطبيقه، سينقل مليارات الدولارات إلى خزائن حكومات مَدينة أو مفلسة بسبب تداعيات كورونا الاقتصاديّة. هذا ما يخفّف عن فقراء تلك البلدان أعباء التداعيات المذكورة، كما يسمح بتوجيه بعض الموارد للمطالب الشعبيّة المُلحّة في العمل والتعليم والتطبيب والإسكان.
إلى ذلك فإنّ نسبة الـ 15 في المائة هي مجرّد حدٍّ تسوويّ أدنى قابل للارتفاع. لكنّ الاتّفاق المذكور سيكون، من جهة ثانية، مدخلاً للضغط على بلدان وتجمّعات دوليّة أخرى كي تتّخذ إجراءات مشابهة. أوّل من سيتعرّضون لهذا الضغط مجموعة العشرين التي تضمّ بلداناً كالصين وروسيا والبرازيل والهند، والتي يُفترض أن تجتمع قريباً في روما. معلوم أنّ الامتثال الدوليّ الأوسع لقرار مجموعة السبع، أو تعميم مضمونه، هو ما يضمن نجاحه في مواجهة الشركات الكبرى.
يبقى أنّ الحافز الذي دفع الأميركيّين والأوروبيّين واليابانيّين في هذا الاتّجاه كان مزدوجاً: الانكماش الاقتصاديّ الذي تسبّبت به الجائحة، والتحوّل الذي طرأ على العقل الآيديولوجيّ والاقتصاديّ في الولايات المتّحدة بعد حلول جو بايدن محلّ دونالد ترمب. لكنّ هذا القرار قد يكون خطوة على طريق دفن النيوليبراليّة كمذهب معتَقديّ ساد منذ الثمانينيّات. الضريبة ودور الدولة إيحاءان قويّان بذلك.
… بالعودة إلى أحوالنا، يبدو تجاهل الإعلام العربيّ الممانع إشارة أخرى إلى نقص الاكتراث بما يحصل في العالم ما دام «لا يخصّنا»، لكنّه يُفصح أيضاً عن قلّة جدّيّتنا حين نعلن الانحياز إلى فقراء العالم أو إلى مكافحة النيوليبراليّة والآثار السلبيّة للعولمة. على أنّ نقص الاكتراث هذا يتحرّك بطرق ملتوية: حين يكون الغرب هو «الشخص الصالح»، (the good guy) كما هي الحال في القرار الأخير، يعمل نقص الاكتراث بطاقته القصوى. لكنْ حين يكون هو «الشخص الشرّير»، (the bad guy) فعندها يعمل الاهتمام بالعالم وشؤونه بطاقة قصوى. أحياناً يحصل بعض الغلط الذي يفشل أصحابه في ضبطه والتحكّم به، كأنْ تستولي عليهم الفرحة لصفعة طالت خدّ الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون قبل أن يتبيّن أنّ الصافع لا يكره أحداً كما يكره «الأجانب» من عرب ومسلمين.
منعاً لكلّ خطأ من هذا النوع، فإنّ الطريق المضمون يبقى إيّاه: أن نقول إنّها مؤامرة ونستريح