المخرج الذي أعد تفاصيل أول إطلالة خارجية للرئيس جو بايدن لا تنقصه البراعة. تمثل الرحلة الأوروبية تحدياً صريحاً لعصر «كورونا» الذي أرغم الرؤساء على الجلوس وراء كماماتهم وجدران مكاتبهم. إنَّها أول إطلالة على العالم بعد انحسار الحرب العالمية التي أوقدها «الفيروس الصيني» وأودت حتى الآن بحياة أربعة ملايين شخص. وهي إطلالة عبر المسرح الأوروبي الذي استجار في القرن الماضي بالقوة الأميركية الصاعدة لقطع عنق أدولف هتلر وإنقاذ العمق الأوروبي من أنياب جوزيف ستالين.
قمة لمجموعة السبع. وقمة أوروبية. وقمة أطلسية. ومسك الختام قمة في جنيف مع «القاتل» الوافد من الجليد الروسي. جاء بايدن لإبلاغ من تقرر أن يلتقيهم رسالة صريحة مفادها أنَّ «أميركا قد عادت». ولهذا بدا مهتماً بتوزيع الابتسامات واللفتات والضمادات والضمانات.
وأثارت إطلالة بايدن الواسعة تلك الأسئلة التي تطلُّ برأسها عند تغيير اسم ساكن البيت الأبيض، خصوصاً بعد الامتحانات الأفغانية والعراقية ونتائجها المخيِّبة. هل أميركا مهتمة فعلاً بالعودة إلى قيادة العالم على غرار ما كانت؟ هل لا تزال تملك ثمنَ القيام بمثل هذا الدور كثير الأعباء؟ هل صحيح أنَّ علاقاتها بالقارة القديمة لم تقترب من التقاعد، وأنَّ التزامها بنود ميثاق حلف الأطلسي لم يترهل؟ وهل صحيح أنَّ أميركا مدعوّة إلى معركة حاسمة مع الصين التي تريد انتزاع الموقع الاقتصادي الأول والتي تشكل تجربتها تحدياً صارخاً للنموذج الغربي الذي يربط الازدهار بالرفاهية والديمقراطية وحقوق الإنسان؟
كان على مائدة بايدن الكثير من المواضيع: الوباء ومسؤولية تلقيح العالم للخروج من عصر «كورونا»، والمناخ، والتجارة، والعلاقات مع «عدوانية القيصر»، و«شراهة ورثة ماو»، ومسؤولية محاربة الإرهاب والهجمات السيبرانية. وخلال تلك القمم حاول بايدن التأكيد أنَّ أميركا حاضرة للمشاركة في قيادة العالم، لكنَّها لن ترقص منفردة بل هي واثقة بالعثور على شركاء موثوقين.
القمة الأميركية الروسية ستفتح بدورها باب المقارنات. لم يَحُلْ استخدام بايدن كلمة «قاتل» في وصف نظيره الروسي دون تحديد موعد القمة. بوتين ليس من قماشة الانفعاليين، وعلّمته هواياته الرياضية أنَّ تبادل الضربات طبيعي وقد يصل إلى الضرب تحت الحزام. أوحى بايدن بأنَّه سيكون صارماً في نقل الرسالة إلى بوتين. رسائل صارمة تتعلق بالتدخل في الانتخابات الأميركية والهجمات السيبرانية ومطاردة المعارضين في الداخل والخارج. ورسائل تتعلَّق بزعزعة استقرار الدول المجاورة وفي طليعتها أوكرانيا، وصولاً إلى الملف السوري وقبله الملف الإيراني، حيث يمكن أن تطلب واشنطن مساعدة موسكو لتليين موقف طهران نووياً وإقليمياً وباليستياً. لكن القيصر ليس موزِّع هدايا، وهو يريد الثمن في العلاقات والعقوبات وسلوك «الناتو».
وفي قمة جنيف بين بايدن وبوتين سيتذكر العالم حقيقة لافتة. أميركا أقوى من روسيا، لكن القيصر أقوى من سيد البيت الأبيض. والصور السابقة تؤكد ذلك. كان ذلك في يوليو (تموز) 2018. كنت بين الصحافيين الذين توافدوا لمواكبة القمة بين الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين. ولم يكن سراً أنَّ المؤتمر الصحافي المشترك كان ذروة الإثارة في الموعد الفنلندي. زعيمان قويان يطلان معاً. الأميركي مغامر جاء من خارج المدرسة. والروسي لاعب شطرنج جاء من عمق المؤسسة الأمنية.
كنت أتداول مع زميلنا كميل الطويل في نقاط قوة كل من اللاعبين ونقاط ضعفه. لم يكن سراً أنَّ بوتين قوي وصارم وبارع في تسديد الضربات، لكن لم يغب عن بالنا أنَّ حجم اقتصاد بلاده يوازي حجم اقتصاد إيطاليا، وأنَّه رغم طول الإقامة لم ينجح في إنجاز شيء يشبه المعجزة الصينية. وكان واضحاً في المقابل أنَّ ترمب هو القائد الأعلى لأبرز قوة عسكرية في التاريخ تستطيع إصابة أي هدف على امتداد العالم. ولم يكن غائباً أنَّ الولايات المتحدة هي صاحبة الاقتصاد الأول والأقوى وإن كانت المنافسة التي تقودها بكين تسجل نقاطاً ليست بسيطة. في المقابل لم يكن باستطاعة الصحافي الحاضر أن ينسى مقدار الطمأنينة الذي كان يلازم وجه سيد الكرملين؛ ليس لديه كونغرس يخاف منه، ولا مبرر لديه للقلق من قسوة الشاشات وكيديات المانشيتات. القيصر مزارع صارم. يقتلع الأعشاب المخربة قبل استفحالها، وهذا يصدق دائماً في الداخل ويصدق في الخارج عند الاضطرار. لهذا كان يبدو واثقاً بصباح اليوم التالي. لم يكن ترمب المحارب يتمتع بمثل هذه الطمأنينة، فقد كان متأكداً أنَّ الصحافيين الأميركيين سيبادرون إلى إغماد الخناجر في خاصرته فور فتح باب الأسئلة، علاوة على «السموم» التي ستُطبخ في مطابع الصحف الكبرى.
المشاعر نفسها راودتني في السنة الأخيرة من القرن الماضي حين ذهبنا في مارس (آذار) لتغطية أعمال القمة الأميركية – السورية. لم يكن سراً أنَّ أميركا أقوى بكثير من سوريا وفي كل الميادين. لم يكن الرئيس حافظ الأسد في أفضل حال صحية، لكنه بدا واثقاً بأخبار اليوم التالي في بلاده؛ ليس لديه كونغرس ينغّص فرحته، وليست لديه صحافة «مسمومة»، فمدير المخابرات يعرف عناوين اليوم التالي إن لم يكن شارك في تدبيجها. وخالجني إحساس أن بيل كلينتون يشعر بالقلق من عناوين صحف اليوم التالي.
قمة جنيف مهمة بالتأكيد. أغلب الظن أنَّ بوتين سيحجز لنفسه دوراً في المرحلة المقبلة. أميركا التي كانت قبل عقود تلعب الورقة الصينية لإضعاف الاتحاد السوفياتي قد ترتفع فيها أصوات تدعو إلى لعب الورقة الروسية لإضعاف العملاق الصيني. وإذا ظهرت هذه الأصوات لن يتردد بوتين في السباحة في هذه المياه لتعزيز موقع بلاده لدى واشنطن وبكين معاً، خصوصاً أن فيروس الصعود الصيني أخطر على بلاده منه على الولايات المتحدة.
لا يخطئ مستشارو بايدن إذا عارضوا المؤتمر الصحافي المشترك مع «القاتل». طول الإقامة في مجلس الشيوخ أو أروقة البيت الأبيض لا يساعد على مواجهة الضابط الوافد من الأكاديمية العليا لـ«كي جي بي». ففي تلك الأكاديمية كان اسم بوتين المستعار «بلاتوف». تدرَّب على العيش بأوراق مزورة وتسميات وهمية. تدرَّب على الكتابة بالحبر السري وعلى أساليب التمويه والتضليل. الرجل الذي أقام قرب جدار برلين بحجة إدارة بيت الصداقة السوفياتي – الألماني الشرقي كان في الحقيقة جاسوساً بارعاً يطوّع الجواسيس ويطارد الجواسيس. كان هناك وسارع إلى إتلاف الوثائق لدى تداعي الجدار. ويبدو أنه أقسم على الانتقام مما سمّاه «أكبر كارثة جيوسياسية شكّلها انهيار الاتحاد السوفياتي». مهمة بايدن مستحيلة. يصعب إقناع «القاتل» بالتخلي عن مهنته.