«لو كان رفيق الحريري حيّاً لما كنّا نعاني ما نعانيه اليوم». هذه العبارة التي ردّدها مؤخّراً أكثر من مواطن لبنانيّ، نُشرت أيضاً على شكل مقالات كما وجدت مكاناً لها في مداخلات وتصريحات سياسيّة. «لو كان حيّاً» هي عنوان نظريّة تضرب أطنابها اليوم في لبنان. البعض يستخدمها قاصداً الإمام موسى الصدر. البعض يقصد بها كمال جنبلاط أو بشير الجميّل. بعض ثالث يذهب أبعد مُحيلاً إلى كميل شمعون أو فؤاد شهاب أو ريمون إدّه. فقط لو كانوا أحياءً!
السياسيّون الراحلون هؤلاء تُنسب إليهم فضائل كبرى يتداخل فيها القليل الحقيقيّ بالكثير المتوهَّم. لكنّ أبرز ما يكمن وراء اختيارهم، أو اختيار معظمهم، الهويّةُ الطائفيّة والمناطقيّة لمن اختاروهم، وفي أحيان قليلة يتدخّل الهوى الآيديولوجيّ والسياسيّ في ذلك.
فهناك تنويعات لبنانيّة كثيرة على طلب المخلّص هذه الأيّام، وهذا علماً بأنّ طالبي الخلاص أذكى وأعرف من أن يتوقّعوا مجيء المخلّص ثانية. الأمر عندهم أقرب إلى إشهار نوستالجيا مُصعَّدة تناظرُ حجم الكارثة الاقتصاديّة الشاملة التي لا يقوون على احتمالها، ولا يملكون أيّة قوّة لصدّها، ولا وسيلة أو اقتراحاً لتذليلها. أقصى ما يمكن فعله هو الاستماع إلى فيروز التي لا يزال صوتها يحتلّ المطاعم والمقاهي، ناشراً النوستالجيا إلى لبنان القديم، متحايلاً على انقسام اللبنانيّين بوحدةٍ وحبّ لا أثر لهما في الواقع.
بالطبع، لا تتعلّق المشكلة بقائد راحل ما، ناهيك عن عودته المستحيلة. المشكلة، في المقابل، أنّ الماضي الوحيد الذي «يعود» فعلاً هو نفسه أسوأ الحاضر، كما أنّه العنصر الأقدر على منع المستقبل.
لنتأمّل قليلاً في أحوالنا السياسيّة الراهنة: إنّ أكثر ما «يعود» هو التنازع المسلم – المسيحيّ الذي تدلّ عليه اليوم المراسلات المسمومة بين ميشال عون ونبيه برّي، وتوافُق برّي وسعد الحريري ووليد جنبلاط، والحرب على وسائل التواصل الاجتماعيّ بين شبيبة «التيّار الوطنيّ الحرّ» وشبيبة «حزب الله»، فضلاً عن التصريحات المتقطّعة لرجال الدين المتضامنين مع زعماء طوائفهم السياسيّين. فوق هذا، فالتنازع المسلم – المسيحيّ، القديم – الجديد، لا يحلّ محلّ التنازع السنّيّ – الشيعيّ، بل ينضاف إليه.
نزاعان كبيران إذاً بدل نزاع واحد.
بيد أنّ نوستالجيا اللبنانيّين إلى «زمن جميل» لا يقتصر عليهم. المشرق العربيّ كلّه تعصف به اليوم تلك النوستالجيا إلى «زمن جميل» ما، زمنٍ يزيد البؤس الاستثنائيّ للحاضر في تجميله. العراقيّون يستعيدون أيّام المَلكيّة ونوري السعيد كما يستعيدون أيّام عبد الكريم قاسم أو أيّام صدّام حسين، كلٌّ حسب هواه وانتماءاته. بعضهم يتحسّر على يهود العراق و«أيّامهم» وبعضهم تقذف به الحسرة بعيداً إلى حضارات ما بين النهرين. السوريّون يتحسّرون على كلّ ما سبق العهد الأسديّ المتواصل منذ نيّف وخمسين عاماً. حتّى رموز مستبدّون كحسني الزعيم وأديب الشيشكلي وعبد الحميد السرّاج باتت تجوز عليهم الرحمة لمجرّد أنّهم حكموا قبل 1970. ذاك أنّ المطلوب لم يعد أكثر من أن لا يكون الزعيم هو الأبد. الفلسطينيّون، الذين سُحقت ذاكرتهم مراراً، وبقوّة وشراسة، لديهم «ما قَبْلات» كثيرة يتعلّقون بأهدابها: ما قبل 1948. ما قبل 1967. ما قبل حروب الأردن ولبنان. ما قبل أوسلو. ما قبل حروب غزّة. ما قبل تدمير اليرموك…
الراهن أنّ أيّ زمن في المشرق العربيّ أفضل من الزمن الحاضر، وكلّ «أسبق» أفضل من «السابق». والحال أنّ أهل المشرق اليوم يشبهون رجلاً أحسّ بألم في الجانب الأيسر من صدره، فبات أمله الوحيد أن يصيبه ألمٌ ما في الجانب الأيمن من الصدر ذاته. بهذا فقط يتأكّد من أنّ الألم الأصليّ لا يضرب القلب ولا يؤدّي حكماً إلى الموت.
أسوأ ممّا عداه، والحال هذه، انعدام التصوّرات في صدد المستقبل، وضعف معرفتنا بما يُعدّه العالم لهذا المستقبل، سلباً كان ذلك أم إيجاباً. ذاك أنّ المسافة التي تفصلنا عن هذا العالم هي اليوم أطول من أيّ وقت سابق. فوق ذلك، ما إن نحاول الاتّصال بالعالم على نحو أو آخر، حتّى يظهر من يردعنا باسم قضيّةٍ لا نصونها إلاّ بالعزلة والانغلاق. وفي لبنان، تحظى العزلة والانغلاق بحزب مسلّح يستند إلى دولة مسلّحة يقول القيّمون عليها إنّهم موصولون مباشرةً بالله.
أمّا فيروز، في هذه الغضون، فتمضي في إنشادها وفي إطلاعنا على أنّنا «نحن والقمر جيران»، وعلى أشياء كثيرة من هذا القبيل.