أستغرب أنه في وقت يتحدث فيه العالم عن موجة ثالثة من كورونا أشد خطراً من سابقتيها، ونسمع عن طفرة جديدة مثيرة للقلق في المتحور الهندي (الذي يعرف الآن باسم دلتا)، لا يزال بعض الناس يتداولون قصصاً للتشكيك في الجائحة وخطورتها، بل وفي حقيقتها. فخلال الأيام القليلة الماضية جرى تداول واسع في وسائل التواصل الاجتماعي للحملة، التي يقودها عدد محدود من أعضاء الكونغرس الأميركي ومجموعات من المعادين للتطعيم ضد الفيروس وأنصار نظرية المؤامرة، واستخدموا فيها رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بالدكتور أنتوني فاوتشي، كبير مستشاري الإدارة الأميركية في مجال الصحة، التي نُشرت أخيراً، لإثارة البلبلة حول الفيروس، وللتشكيك في جدوى التطعيم وبعض إجراءات الوقاية مثل استخدام الكمامات.
أما لماذا استهدفوا فاوتشي، فلأنه وجه الحملة الأميركية لمواجهة كورونا والدعوة للتطعيم، والطعن فيه وفي مواقفه يخدم أهداف التيار المتطرف الذي تبنى منذ البداية نظرية المؤامرة بشأن كورونا، وعارض كل إجراءات الوقاية بما فيها اللقاحات. وفي إطار الهجمة عليه خرجت النائبة الجمهورية المعروفة بمواقفها المتطرفة في معاداة إجراءات الإدارة الأميركية لكبح جماح الجائحة، مارجوري تيلور غرين، على الناس، في مؤتمر صحافي، قبل أيام، للترويج لتشريع تتبناه لفصل فاوتشي من وظيفته كمستشار حكومي وكمدير للمعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية، وهو المنصب الذي جعله يتقاضى راتباً أعلى من راتب الرئيس الأميركي. لكن رغم التداول الواسع الذي حظي به مؤتمرها الصحافي، فإن هناك إجماعاً على أن التشريع الذي تتبناه لن يمر في الكونغرس بمجلسيه، ولم يتجاوز عدد داعميه تسعة أعضاء.
رسائل فاوتشي التي بلغت نحو 3 آلاف صفحة من بريده الإلكتروني، وحصلت عليها صحيفة «واشنطن بوست» والموقع الإخباري «باز فيد نيوز» وشبكة «سي إن إن» من خلال طلبات قانون حرية المعلومات، يعود تاريخها إلى بداية ومنتصف العام الماضي. وفي حين أن هذه المؤسسات الإعلامية نشرتها لتعكس حجم البلبلة والاضطراب الذي ميّز ردود الفعل إزاء الجائحة في بداياتها، فإن التيار المتطرف المتبني لنظرية المؤامرة وجد فيها فرصة ليروج لأفكاره وليصعد حملته ضد فاوتشي وضد إجراءات الوقاية والتطعيم.
الضجة حول الرسائل ستنحسر سريعاً، لأن أغلبية الناس على قناعة بأن الفيروس حقيقي، وأن مرض «كوفيد – 19» الناجم عنه خطير للغاية، وأرقام الإصابات والوفيات كافية لدحر شطحات المشككين. المهم ألا تثير هذه الأمور شكوك بعض المترددين وتدفعهم للامتناع عن التطعيم إذا توفر لهم، ففوائد اللقاحات تؤكدها جل الآراء العلمية والطبية، وهناك أكثر من 2.6 مليار إنسان تلقوا التطعيم، لكن الطريق لا يزال طويلاً لتطعيم 70 إلى 80 في المائة من سكان العالم، والوصول إلى ما يعرف بمناعة القطيع التي يصبح معها ممكناً كبح جماح الفيروس.
هناك تجربة مهمة جرت في البرازيل تؤكد أنه متى ما تم بلوغ هذه النسب، فإن «كوفيد – 19» لن يعود ذلك المرض المخيف، وأن فيروس كورونا يمكن احتواؤه. التجربة التي أعلنت نتائجها هذا الشهر أُجريت في بلدة سيرانا، في ولاية ساو باولو، بين فبراير (شباط) وأبريل (نيسان) وأشرف عليها معهد «بوتانتان» الذي ينتج محلياً لقاح «كورونافاك» بالاتفاق مع شركة «سينوفاك» الصينية. وجرت التجربة التي أطلق عليها اسم «برنامج إس» في سرية شديدة لحماية البلدة التي يبلغ عدد سكانها 45 ألف نسمة، حتى لا يتدفق عليها الناس من المدن المجاورة إذا سمعوا بتوفر اللقاحات فيها.
ما الذي حدث في سيرانا؟
قرر الباحثون تطعيم جميع البالغين في البلدة وعددهم 30 ألفاً كجزء من التجربة التي تعد الأولى من نوعها في العالم، لمعرفة متى تتحقق مناعة القطيع، وهل تكون ناجعة مع كورونا. وجاءت نتيجة حملة التطعيم لتؤكد انخفاضاً بنسبة 95 في المائة في وفيات «كوفيد – 19»، وتراجعاً ملحوظاً في عدد الإصابات، رغم أن سيرانا محاطة بمدن أخرى تعاني من ارتفاع حاد في أعداد المصابين.
خلال التجربة، قُسمت البلدة إلى أربع مناطق لتحديد النسبة التي يتم فيها احتواء الفيروس. ووجد الباحثون أن مناعة القطيع تحققت بعد إعطاء ثلاث مناطق، أي نحو 75 في المائة من السكان فوق سن 18، الجرعتين من اللقاح.
وقال ريكاردو بالاسيوس، الذي أشرف على البحث، إن النتيجة المهمة من نسبة الـ75 في المائة هي أنه يمكن السيطرة على الفيروس من دون الحاجة إلى تطعيم جميع السكان. وأضاف أن الأمر الآخر المهم هو أن أولئك الذين لم يتم تطعيمهم تحققت لهم الحماية أيضاً من خلال انخفاض انتشار الفيروس. وفي هذا الصدد، لوحظ أيضاً الانخفاض في عدد الحالات بين المراهقين الذين لم يتم تطعيمهم، ما قد يعني عدم وجود حاجة لتلقيح الأطفال لإعادة فتح المدارس، ما دامت النسبة الغالبة من البالغين تلقوا التطعيم.
الواقع أن تجربة سيرانا حققت نجاحاً كبيراً إذا نظرنا إلى النتيجة كاملة في المناطق الأربع وليس ثلاثاً منها. فقد أشارت النتائج إلى أنه عندما تم تطعيم 95 في المائة من البالغين بالجرعتين انخفضت الوفيات في البلدة بنسبة 95 في المائة، وانخفض دخول المستشفى بنسبة 86 في المائة، وانخفضت حالات أعراض المرض بنسبة 80 في المائة.
أضف إلى ذلك أن نتائج التجربة أظهرت أنه لم تكن هناك آثار جانبية خطيرة من اللقاح، ولا وفيات مرتبطة بـ«كوفيد – 19» بين الذين تلقوا التطعيم وتحديداً بعد 14 يوماً من أخذ الجرعة الثانية من اللقاح. وسيواصل الباحثون في «برنامج إس» متابعة حالة سكان سيرانا لمدة عام لتسجيل المزيد من الملاحظات ولمعرفة كم من الوقت تستمر فاعلية اللقاح، لا سيما مع اختلاط سكان سيرانا بسكان المدن المحيطة التي ترتفع فيها الإصابات.
يذكر أن البرازيل عانت بشدة من الجائحة التي تسببت في وفاة ما يقرب من 463 ألف شخص، أي ثاني أعلى عدد من وفيات «كوفيد – 19» في العالم بعد الولايات المتحدة، وثالث أكبر عدد من الإصابات التي بلغت 16.5 مليون إصابة، بينما بلغت في الولايات المتحدة 34 مليون إصابة، وفي الهند 30 مليوناً.
وتُجرى حالياً تجربة مماثلة لتجربة سيرانا في مدينة برازيلية أخرى، هي بوتوكاتو التي يبلغ عدد سكانها 148 ألف نسمة، وسيستخدم الباحثون هذه المرة لقاح «أسترازينيكا».
ما يحدث في تجربتي البرازيل يمكن أن يقدم لمحة عما قد يكون عليه مستقبل الجائحة، في الدول التي نجحت في تطعيم أكثر من 75 في المائة من سكانها، بل وفي العالم إذا استمر التوسع في التطعيم ليشمل كل الدول. ونجاح مثل هذه التجارب هو أكبر رد على المشككين في جدوى اللقاحات، وهو الرسالة التي ينبغي أن تصل إلى أسماع الناس، لا شطحات أصحاب نظرية المؤامرة.