في احتساب الوضع الراهن في المشرق العربيّ، وفي ما يتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة خصوصاً، هناك اليوم طريقتان وقراءتان. إنّهما متعارضتان ظاهريّاً لكنّهما صائبتان وقابلتان، على الأرجح، للجمع في حسبة واحدة.
الأولى تشدّد على قوّة إسرائيل العسكريّة وعلى تقنيّاتها الحربيّة وسلاحها النوويّ وصِلاتها بدول العالم المؤثّرة، فضلاً عن اقتصادها المتطوّر. وهي تضيف: لقد نجحت الدولة العبريّة مؤخّراً في توقيع أربع معاهدات مع أربع دول عربيّة (المغرب والسودان والإمارات المتّحدة والبحرين)، دولٍ تمتدّ من شرق العالم العربيّ إلى أقصى غربه وجنوبه، في ظلّ استمرار العمل باتّفاقاتها السابقة مع مصر (كامب ديفيد) والأردن (وادي عربة) وفلسطين (أوسلو).
إلى ذلك، فبلدان المشرق العربيّ تعيش اليوم أسوأ أوضاعها: سوريّا موزّعة إلى سوريّات ومُنقّطَة بالاحتلالات الأجنبيّة. العراق متنازع داخليّاً وضائع السيادة التي يحاول مصطفى الكاظمي، بشقّ النفس، استرداد بعضها. لبنان، كنموذج في المنطقة، منهار ومفلس. الأردن ضعيف وفقير. أمّا الفلسطينيّون أنفسهم فما زالوا منقسمين وهم يزدادون انقساماً.
إذاً، وبموجب هذه الطريقة – القراءة، تبدو إسرائيل في أحسن أحوالها، ويبدو من العبث التفكير في مقاومتها، أو حتّى في معانَدتها. تغييرها الحكوميّ تفصيل. صواريخ غزّة عليها تفصيل آخر.
الثانية تؤكّد، في المقابل، أنّ إسرائيل تعيش أسوأ أحوالها: ذاك أنّ تفهّم الحقّ الفلسطينيّ يكسب قطاعات شعبيّة واسعة في العالم، وهو يخترق بيئات ثقافيّة وفنّيّة وإعلاميّة كانت مغلقة على الفلسطينيّين قبلاً، كما يشقّ بعض المعابر إلى عمق الحزب الديمقراطيّ «الحاكم» في الولايات المتّحدة وإلى قوى وأحزاب «رسميّة» في بلدان غربيّة أخرى. هذا فضلاً عن أنّ استخدام العداء للساميّة بسبب ولا سبب لم يعد يخاطب الأجيال الأصغر سنّاً في الغرب، فيما توفّر وسائل التواصل الاجتماعيّ الصاعد ما لم يكن يوفّره الإعلام التقليديّ الهابط من تعريف بحقوق الفلسطينيّين وتأييد لهم. يضاف إلى ذلك كلّه أنّ جاذبيّة الديمقراطيّة الإسرائيليّة بات يقضمها واقعا الاحتلال في أراضي 1967 والممارسات العنصريّة في أراضي 1948. الواقعان هذان لا يُفقدانها الجاذبيّة فحسب. إنّهما يسمّمانها.
هناك من يتمسّك بالطريقة – القراءة الأولى في الاحتساب متجاهلاً الثانية بوصفها، في أحسن الأحوال، مغامرة أو مراهقة. هناك من يتمسّك بالثانية ويصم الأولى والقائلين بها بالاستسلام والتبعيّة. عدم الجمع بين الطريقتين – القراءتين المذكورتين، والصائبتين معاً، يعزّز أسوأ ما يجري حاليّاً: بموجب القراءة الأولى، ينبغي أن تستمرّ القيادة الحاليّة للعمل الوطنيّ الفلسطينيّ، أي «فتح» و«منظّمة التحرير» و«سلطة أوسلو». إنّها وحدها، على رغم ترهّلها وبطء لحاقها بالمستجدّات الفلسسطينيّة والدوليّة، الطرف القادر على التعامل مع توازنات القوى. لا بل إنّ ذاك الترهّل هو بالضبط ما يؤهّلها لتلك المهمّة في ظلّ توازنات القوى المعروفة والتي ينعدم الأمل في تغييرها. هذا هو التطبيق الفلسطينيّ للنظريّة القائلة إنّ الضعف هو القوّة الوحيدة.
لكنْ بموجب القراءة الثانية، ينبغي أن تُزاح قيادة رام الله لمصلحة «حركة حماس» (و«الجهاد الإسلاميّ») بحيث يُستكمَل العمل للوصول إلى انتصار كامل تُزال بنتيجته إسرائيل، إذ «القدس أقرب من أيّ وقت مضى» وفق الشعار الممانع.
مصالحة هاتين الطريقتين – القراءتين ليست مستحيلة نظريّاً، وإن بدت، للأسباب المعروفة، مستحيلة سياسيّاً. ما يمكن أن تنهض عليه مصالحة كهذه ليس سوى انتفاضة سلميّة ومدنيّة تتجنّب الصدام بالتفوّق العسكريّ الإسرائيليّ، ولا تستورد إليها تهافت الجوار العربيّ وضعفه، فيما تحتفظ بمكاسبها في الرأي العامّ العالميّ، وربّما الإسرائيليّ، وقد توسّعها. فوق هذا، قد تستطيع انتفاضة كهذه أن تبعث الحياة في قواسم مشتركة فلسطينيّة، أو ما يُفترض أنّه كذلك.
أغلب الظنّ أنّ السلطة الفلسطينيّة تشبه مرحلة منقضية فعلاً، وهو ما قد يغري البعض بأنّ إزاحتها تفتح الطريق إلى بديل أشدّ انسجاماً مع المرحلة الراهنة. لكنْ مثلما أدّى الاقتصار على إحدى القراءتين إلى المطالبة بتجاوز السلطة، فإنّ الاقتصار على القراءة الأخرى يهدّد بجعل بديل السلطة أسوأ منها.
مقتل الناشط نزار بنات في سجون الأمن الفلسطينيّ يشير إلى قصور رام الله وفهمها. تحويل مقتله إلى فرصة للانقضاض على السلطة يشير إلى قصور البدائل في غزّة، ومن ورائها طهران.
إنّ الانتفاضة المدنيّة هي وحدها ما يقع بين الحدّين:
– حدّ «اللجم» الذي تمارسه السلطة، مع ما يرتّبه من تبعات سلبيّة داخل الجسم الفلسطينيّ، ومن طيّ لحقوق مشروعة أو تأجيل لها إلى ما شاء الله،
– وحدّ «الإطلاق» الأهوج والانتحاريّ الذي يهدّد بحرب أهليّة بين الفلسطينيّين، وبتكريس الفرز داخل قضيّتهم إلى قضايا كثيرة متنازعة يطلع منها الشعب الفلسطينيّ على شكل شعوب.