هل «الإلياذة» أول وأهم ملحمة شعرية في التاريخ؟ هل صحيح أن كاتبها واحد هو اليوناني الأعمى هوميروس؟ هكذا يقال. ويقال أيضاً إنها من صنع 12 شاعراً. وإن القرن الذي أعلنت منه يبعد 12 قرناً عن الذي وضعت فيه. أين الحقيقة إذن؟ لا في أي فصل ولا في أي مكان. كل ما هناك أن رجلاً، أو دزينة رجال، في زمن ما من تاريخ أثينا، تركوا للإنسانية أجمل ملاحم التاريخ. فيها فروسية وفيها جرأة وفيها خيانات وفيها ضعف وحسد. وفيها جميع أنواع الآلهة والآلهات مثل الأدوية في جعبة «الطبيب» المغربي. وفيها حروب وقتال ودماء وخسائر. وفيها أجمل أنواع الشعر والوجدانيات. وحكايات الغرام. و«الساحرة الجميلة» لكن لا شرف لها. وفيها نميمة ودسائس ومؤامرات وخداع ووشايات. وفيها شعر. أعذبه وأكذبه وأصدقه، وفيها لوعة الحب وفيها ندم عارم: «ها نحن نتصارع مع الموت من أجل امرأة آبقة لا عرض لها ولا شرف».
لكن هوميروس يصر على التفاصيل: كما في الرواية، كما في الملحمة. ويا له من شاعر فيّاض وخطيب آسر: «وهكذا مارس، إله الحرب، لا يكاد يلمح نبتون حتى يتذكر تلك الأيام السوداء التي صبّ فيها ربّ البحار عليه سوط عذابه، فيخفق قلبه وترتعد فرائصه ويكبو زنده وتذهب ريحه وتتحطم شوكته».
لا يعود مهماً كثيراً كم ألف سنة عمرُ هذا النص الحي. المهم هنا أن ندرك أن ما سمّي في الأدب، الكلاسيكيات، أو الخالدات، أو الروائع، هو كذلك. وأن حياته تتجدد مع الأجيال، لا لغته تعتق ولا روعته تذوي: «ها هي تلك الرماح التي لطالما لاعب بها أوديسيوس الأسنّة، والسيوف التي لطالما انتزع بها الأرواح، والدروع السابقات التي كانت تدرأ عنه وتفتديه. ثم ها هي تلك النفوس العظيمة معلقة فوق الحائط، تلمع وترقص من حولها المنايا».
إذا قرأت «الإلياذة» في العشرين، سوف تعيد قراءتها في الثلاثين، وإذا قرأتها وأنت في الثلاثين، سوف تقرأها وأنت في السبعين، وإذا قرأتها في السبعين سوف لن تقرأها بعد ذلك. لأنك تكون قد حفظتها وحُفرت في أرجاء الذاكرة. وفيها شغف ودموع امرأة باسقة تستحق أن تشعل من أجلها حرب وأن تعقد على قدميها هدنة الهيليثيين والطرواديين، وأن تقف شعوب الجزر من أجلها مغنية، تودع الصواري بالدماء وتستقبل أعاليها بالنصر.
هذا هو سر «الإلياذة». إنها كُتبت بعلامات التعجب والآهات وفوق الأمواج العاتية والصخور التي يرتطم بها بصر هذا الأعمى السابح كالنسور فوق أودية الكلمات وعباب الأساطير وأعماق النفس البشرية بكل خواطرها الحانية.