قبل أي شيء، يجب الإقرار بأن جبران باسيل قد ربح. فاز على سعد الحريري وعلى «تيار المستقبل» وعلى الرئيس نبيه بري وعلى بطريرك الموارنة، وعلى الرموز السنية وعلى الجامعة العربية والدول الكبرى. وانتصر – خصوصاً – على لبنان.
كيف يمكن أن يهزم كل هذه القوى الوطنية رجل خارج عن كل أعراف لبنان ومفاهيمه، وحتى الاتفاق بين روسيا وأميركا وبريطانيا، وعن موقف مصر، وعن رغبة الفاتيكان وسائر قوى الاعتدال في العالم؟ لا أعرف. كل ما أنا واثق منه، أنه يوم مؤلم في تاريخ لبنان. ليس لأن سعد الحريري قد خسر، بل لأن جبران باسيل انتصر. هذا حدث مؤلم، وباب شديد الخطورة، يفتح بلداً فقد كل إمكانات البقاء كدولة، والآن كوطن، في سبيل رجل تصفه «التايمز» بأنه «الأكثر مكروهية في تاريخ لبنان».
كيف يمكن الجمع بين «الأكثر مكروهية» والأكبر انتصاراً في سياسات لبنان؟ اختلال لبنان وسياساته وقيمه وسقوطه النهائي كمؤسسة قابلة للحياة. لم يكن سعد الحريري يمثل كل هذه الأسس. لكنه أيضاً لم يكن يختصر العداء لها واحتقارها ونكرانها واعتبارها هراء لا وقت له.
الرجل الذي ظل جبران باسيل يماحكه حتى تم تغيير الدستور لإخراجه، لم يكن أكثر سياسيي لبنان ذكاء أو دهاء أو خبرة سياسية. بل إلى حد بعيد كان العكس. والدليل أنه قَبِلَ التعامل مع باسيل طوال سنوات على أنه حامل مفاتيح الجمهورية وساحرها. وكان يستقبله بعد ظُهر كل أحد خارج إطارات العمل، وهو يرتدي قميصاً أبيض أقرب إلى الفانيلات، رافساً بضحكته العريضة بكل جد، أصول أو لياقة، لكي يرسل إلى الجميع، برقية قليلة الاحترام، تؤكد أن لا صفة رسمية له، لكن لا حاجة لها إطلاقاً في ميزان القوى.
سعد الحريري كان رجلاً طيباً في غابة من الذئاب. وكانت له خصائل ونيات حسنة. لكن هذه ليست مؤهلات جيدة في الأدغال وعباداتها، وتبنى سياسة الضعف حيال خصومه والقوة حيال حلفائه. ولم يدرك إلا متأخراً مدى الخبث واللؤم والعدمية، المضروب من حوله.
ولا يخسر سعد الحريري وحده في هذا السقوط المدوي لكل ما بقي من لبنان السابق، بل يمنى بالخسارة الكبرى أيضاً رموز العراقة والألمعية والتمثيل الوطني الحقيقي، مثل نبيه بري ووليد جنبلاط، أو القوى المستقلة الرافضة كلياً لهذا المهرجان الكئيب في جنازة لبنان، يتقدمه ضاحكاً ضحكة الانتصار، رجل لا يحقق سوى تغلب الحقد والثأر وبسط الفراغ المدمّر. وسوف أستعيد في هذه المناسبة ما كررته في هذه الحالات منذ حرب لبنان: انتصار أبشع من الهزيمة.
من حلاوة الروح
تُكمل الحياة مسيرتها في لبنان، بما تيسّر. السهارى، ورواد الملاهي والمطاعم، لا يتركون لك كرسياً شاغراً. احجز مسبقاً، خصوصاً في نهاية الأسبوع، فقد لا تجد جلسة على شاطئ البحر في مكانك المفضل، أو غرفة في فندق جبلي طيب السمعة. فالطلب كثير والأماكن محدودة. يجدر أن تخطط مسبقاً، إذ إن بعض بيوت الضيافة، حُجزت حتى آخر الصيف. في المنتجعات البحرية تمركز المغتربون، وبات العثور على شاليه للإيجار يحتاج إلى بحث مضنٍ. والمقيمون ممن أدمنوا السفر، ضاقت بهم الحال، فاستبدلوا برحلاتهم، جولات وإقامات في المناطق. خرجت بعض المدّخرات. آمن المعذبون أن عملتهم التي تشبه أوراق لعبة «المونوبولي»، من المفيد أن تُصرف على عجل، لأنها تفقد قيمتها بأسرع من القدرة على صرفها.
التناقضات في لبنان سمة، وهي الآن في أوجها. حتى أكثر المتفائلين لم يكن يتوقع أن يصل من العراق ألف سائح كل يوم، إلى بلاد يقال إن أزمتها هي بين العشر الأسوأ في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. لا بأس إذن، من استغلال هبوط الأسعار، حيث كان قضاء بضعة أيام في بلاد فاحشة الغلاء، حلماً عزيزاً على كثير من الجيران. الفرصة سانحة، والطائرات تُقلّ أردنيين ومصريين، ومئات آلاف المغتربين، الذين حرمتهم الجائحة من زيارة عائلاتهم لأكثر من سنة. عشرة آلاف شخص يصلون إلى لبنان كل يوم. العدد يرتفع باطراد. الراجعون يخبرون بما رأوا وسمعوا، ويشجعون المترددين. شركات الطيران تلجأ لبرمجة رحلات إضافية، لتلبية الطلب. ازدحام يقارب ما قبل كل الأزمات والانهيارات. عدد الزوار على هذا المنوال، سيبلغ المليون هذا الصيف. هناك من يغادر ويعود بعد أيام، ومن يندم، لأنه لم يستغرق الوقت الذي يسمح بالاستكشاف والاستجمام.
الشقة واسعة، بين نعيق نشرات الأخبار التي لا يريد أن يسمعها جمهور الناس، وما يمكن أن يعيشه مواطن أو زائر، توفر في جيبه ما يسمح بالاستمتاع. قد تكون ساهراً في ملهى، والمحتجون يحرقون دواليبهم الغاضبة على مبعدة أمتار، أو تمارس رياضتك المفضلة على صوت موسيقى هادئة، بينما يعجّ الشارع في الخارج بأصوات الغاضبين، ولا ترى منهم من وراء الواجهات الزجاجية سوى حركاتهم الصماء. قد تُمضي أيامك في لبنان، ولا تلتقي أحداً من كل هؤلاء. مما يردده السياح أنهم لا يلحظون أزمة، ولا يشعرون بمعاناة، ولولا طوابير السيارات الطويلة على محطات البنزين، لما صدّقوا أن ثمة شيئاً غير اعتيادي. والأظرف أن ثمة مَن يعتبر، فيما يرى، خصوصية، ويسعد أن يكون شاهداً على مفصل تاريخي.
لا الخوف من انقطاع الدواء، ولا شح الكهرباء، وفقدان بعض السلع، هو ما يردع الزوار. إنما هي مناسبة لأن تمتلئ الحقائب الآتية بالأدوية والأطعمة، وما يطلبه جمهور لبنان الطامح للحصول على المفقودات.
وضع سوريالي؛ إذ تعجّ صفحات «فيسبوك» ومجموعات «واتساب»، بإعلانات لمرضى يبحثون عن أدوية مفقودة، أطفال يقضون لفقدان مخفِّضات الحرارة ومضادات الالتهابات، وأمهات يسألن عن حليب للرضّع، ومستشفيات تخشى على مرضاها من انقطاع الكهرباء، والاختناق بعد توقف الأجهزة. كل ذلك يحدث حتماً، ويحدث أيضاً، أن العمر قصير، وأن الخروج من النفق قد يستغرق عمراً. وليس لك والحالة هذه إلا أن تعيش اللحظة.
حلاوة الروح تدفع بالناس للبحث عن المرح. والجلّادون ينظرون من عليائهم إلى المشهد العبثي، ويتساءلون: أما آن لهؤلاء أن يموتوا؟! تتلفت حولك، فتسمع موسيقى تصدح، تختلط بقهقهات الساهرين، وغيظهم المكبوت، ورنة الحزن في الصوت حين يخفت. الاستسلام لليأس يعني أن الجلاد قد انتصر، وأنت لا تريد أن ترى الشماتة على ثغره، فتتمادى في اصطناع الفرح.
ثمة تواطؤ ضمني على رفض الموت، ومقاومة الاحتضار. حتى مهرجانات بعلبك قررت أن تتمرد على الصمت، أن تقدّم الفنانين الشبّان بموسيقاهم وأحلامهم، وهم يعزفون ويغنون في أجمل الأماكن الأثرية وأكثرها سحراً، بكاميرات أبدعت في تصوير عيد فنّي بثته الشاشات، لبعث الأمل في النفوس المكسورة. كلٌّ يفعل ما يستطيع. تتكاتف الجهود الصغيرة، لتسند وترمم وتدرأ سيناريو الزوال. تتعجب «فاينانشيال تايمز» من إصرار مصممين عالميين كبار، خسروا في انفجار مرفأ بيروت الرهيب، بيوتهم وتعب عقود، ويصرّون على البقاء في عاصمتهم المعذبة، مع أن عواصم الدنيا تشرّع أبوابها لهم. لا بل هؤلاء عدّلوا خططهم لتتناسب والاقتصاد المتردي، وليسهموا في انتشاله. تجارب تُبكيك تأثراً. العالمي ربيع كيروز، الذي تعرض لإصابة بالغة في رأسه، وخسر مشغله، ها هو يرمِّم ويجمع ويتبرع، ويؤسس المبادرات ليساعد. إيلي صعب بعد أن خسر بيته الجميل كله، لا يزال يجد في بيروت مكانه الأثير للوحي والابتكار. ومثلهم الصائغ الشهير سليم مزنر الصامد في مدينته لأنه قد «يمكنك تدمير الجدران لكن لا يمكنك تدمير الروح». لم تذكر الجريدة الموهوب زهير مراد الذي خسر عشرين سنة أرشيف ومشغله ومكتبه، وبقي صامداً، عائداً. لم تصل إلى داني الأطرش وطوني ورد وعبد محفوظ… والصامدون كثر.
صحيح إنها لـ«معجزة» حقاً، أن تعمل في بلد «لا يعمل فيه شيء»، أن تمضي في ابتكارات الموضة، حيث يمكن أن تموت لمجرد أنك في لبنان، وتعلم أن آخر ما يُعنى به الناس، والحالة هذه، هو أناقتهم وحسن هندامهم.
آلاف السنين والبشرية ترسم، وتغني وترقص، وتنظم الأفراح الجماعية، كي تجعل الحياة أفضل. منذ فجر التاريخ والإنسان يقاوم الموت بالجمال والضحك. واللبنانيون ولا سيّما العقلاء منهم، في هذه الأيام المفجعة، بمقيميهم ومغتربيهم، يمسك بعضهم بأيدي بعض، ليدرأوا جنون الخراب، عمّن تأكلهم الحاجة ويمضغهم فائض الظلم والعسف.