انتزع عرب القرن العشرين تعبيرين من الطبيعة ثمّ جاؤوا بهما إلى السياسة والاجتماع: «النكبة» وصفاً لنشأة إسرائيل في 1948، و«النكسة» وصفاً لهزيمة «حرب الأيّام الستّة» عام 1967. المشترك بين التعبيرين هو بالضبط كونهما طبيعيّين: إنّهما يُعفيان البشر من المسؤوليّة عن أفعالهم ويردّان المسؤوليّة كلّها إلى قوى لا سيطرة إنسانيّة عليها، كالبراكين والزلازل المدمّرة…
المختلِف بين التعبيرين أنّ النكبة أقلّ ذرائعيّة وأكثر تواضعاً، تعترف بأنّ الهزيمة حدث نوعيّ ضخم، فيما النكسة (وقد سكّ التعبير محمّد حسنين هيكل) تقول إنّ الهزيمة حدث كمّيّ وعابر على طريق مشروع صاعد. إنّها مجرّد كبوة، ولكلّ جواد كبوة، كما يقول مثل جاهليّ مشهور.
نستخدم اليوم هذين التعبيرين لوصف أحوال لبنان، وجزئيّاً منطقة المشرق العربيّ، لا كتعبيرين طبيعيّين، بل كدليلين على حجم المعاناة: هل هي «نكبة» نوعيّة، بمعنى أنّها عميقة جدّاً وجذريّة جدّاً فيما تجاوزها بالغ الصعوبة، وقد يكون مستحيلاً، أم هي «نكسة» كمّيّة لن نلبث أن نخرج منها مُعافين، وبالتالي «راجع يتعمّر لبنان»، بحسب ما تخبرنا الأغنية الفولكلوريّة الواثقة. أغلب الظنّ أنّها «نكبة». أسباب ذلك خمسة على الأقلّ.
أوّلاً، أنّ النظام الطائفيّ في لبنان، الذي استُنفد تماماً، لم يعد في وسعه أن ينتج طاقماً أفضل من الطاقم الحاكم اليوم. إنّ الأسوأ هو دائماً ما يلوح في الأفق. إنّه راهننا.
بدورهم، فالمراهنون على «تجديد النُخب» يفوتهم أنّ الماء لا يصمد في غربال. القوى الاجتماعيّة والسياسيّة المختلفة، التي قد تنجز مكاسب موضعيّة هنا وهناك، يرسم لها التفتّتُ الطائفيّ الضارب سقفاً منخفضاً. البدائل، على النطاق الوطنيّ العريض، بدائل نظريّة وافتراضيّة فحسب.
وثانياً، أنّ وظيفة لبنان التقليديّة تضمحلّ، بحيث لم تعد المواءمة سهلة بين هذا النظام، وربّما أيّ نظام، وبين وساطةٍ تآكلت الحاجة الإقليميّة والدوليّة إليها، ناهيك عن تآكل أدواتها والقدرة على أدائها، سيّما مع الهجرة الراهنة والمتعاظمة للكفاءات اللبنانيّة. نشهد ذلك بصور مختلفة ومتفاوتة في المدينة والمصرف والمرفأ والمطار، كما في المستشفى والجامعة والفندق والمطعم… إنّ تراجع مستوى التجاوب العربيّ والعالميّ مع ما يجري راهناً في لبنان يعلن جزئيّاً تلك الحقيقة.
وثالثاً، أنّ «حزب الله» سيبقى طويلاً، ما لم يحصل تطوّر استثنائيّ، العاملَ الأشدّ فعلاً وتأثيراً في حياة لبنان واللبنانيّين. هنا لا نتحدّث فقط عن السلاح. نتحدّث أساساً عن اصطفاف طائفيّ شديد التلاحم في وقوفه وراء السلاح، وتالياً شديد الترسيخ لواقع التفكّك الطائفيّ ولتفاقمه. إنّ قيام دولة، ولو بالحدّ الأدنى، هو ما يمنعه مجرّد وجود هذا الحزب ذي القوّة المستفحلة.
ورابعاً، أنّ منطقة المشرق العربيّ كلّها تنهار على نحو أو آخر، من العراق إلى غزّة. ما من أحد يستطيع أن يُنجد أحداً.
هكذا يغدو الانهيار اللبنانيّ جزءاً من لوحة أعرض وأعمّ ترسمها ريشة إيرانيّة. أبعد من ذلك أنّ المنطقة المذكورة تفقد اليوم وزنها في توازن القوى العالميّ، اقتصاديّاً وتقنيّاً، كما سياسيّاً وثقافيّاً.
وخامساً وأخيراً، أنّ الانشغال الغربيّ بمنطقة الشرق الأوسط ككلّ شهد في العقدين الأخيرين تراجعاً لمصلحة التعويل على آسيا ومنطقة المحيط الهادئ. نلاحظ مثلاً أنّ سياسات الحزبين الجمهوريّ والديمقراطيّ في الولايات المتّحدة، وعلى رغم الفوارق الكثيرة بينها، لا تختلف كثيراً حول تلك الأولويّات. بدورها فجهود أوروبا في الحدّ من تدفّق اللاجئين إليها لا تكفي وحدها لتعديل الأجندات الدوليّة الكبرى. إلى ذلك فإنّ وجود إسرائيل مضمون، وإلحاح النفط متراجع.
هذه العوامل الخمسة، في ما بينها من تفاعل ومن تبادل في التأثّر والتأثير، تؤسّس لـ «عصر ظلام» ليس من السهل التقليل من جبروته، ناهيك عن التغلّب عليه والإقلاع بعد ذلك. هنا، لا بأس بالتذكير، مع الاحتفاظ بالفوارق في الأحجام وفي مدى التأثير، بأنّ تعبير «عصر الظلام» إنّما استُخدم أصلاً لوصف أوروبا بعدما استولى «البرابرة» الشماليّون الذين هبطوا من ألمانيا واسكندينافيا الحاليّتين على روما في أواخر القرن الخامس للميلاد. آنذاك دُمّرت روما وحضارتها العظيمة وبالكاد تُرك أثرٌ يدلّ عليها. القرون الوسطى التي تلت عُدّت «عصر ظلام». كابوس هذا الظلام لم يبدأ بالانحسار إلاّ بعد قرون ستّة، مع ما بات يُعرف لاحقاً بـ «عصر النهضة».
عندنا، «عصر الظلام» يعمّ من دون مجاز أو تورية. ذاك أنّ المشرق اليوم هو كلّه منطقة بلا كهرباء.
نعم، هي، على الأرجح، نكبة.