هنا مقدمة الكتاب ننشرها بالإذن من الناشر.
فلنبدأ بما لا تقوله هذه الصفحات:
فهي لا تقول إنّ “كلّ” الفكر والإبداع السياسيّين العربيّين من صنف رومنطيقيّ، وطبعاً لا تقول إنّ “كلّ” النتاج الرومنطيقيّ، ولا سيّما في الفنّ والأدب، مُدان أو رجعيّ أو متخلّف. شيء آخر لا يقوله نقدها للرومنطيقيّة، هو تمجيد المبالغة في التجريد العقلانيّ، أو محو كلّ أثر خاصّ في تجربة بعينها، ومن ثمّ نزع بعض ما هو إنسانيّ أو حميم في حياتنا، وتالياً تحكيم العنف “العقلانيّ” في العلاقات الاجتماعيّة وفي السياسة. والحال أنّ البشريّة كلّما استظلّت بالعلم والتقنيّة، وهما من أبرز مكاسبها النهائيّة، زادت حاجتها إلى مقدار مضبوط من الرومنطيقيّة والروحانيّة المَرِنتين.
أمّا ردّ سلبيّات هذه الرومنطيقيّة إليـنا” حصراً، أي إلى العرب والمسلمين، وتنزيهها عن غرب مؤمثل وخرافيّ، فهذا أيضاً ليس في الوارد، ولا سيّما أنّ الرومنطيقيّة، بالسلبيّ فيها والإيجابيّ، ظاهرة ولدت في أوروبا، لا في البلدان العربيّة والمسلمة. وإنّما على تلك الرومنطيقيّة الأوروبيّة تحديداً يقاس ما هو رومنطيقيّ عندنا.
مع هذا، تقول تلك الصفحات إنّ أحد التيّارات القويّة في الفكر والإبداع السياسيّين المشرقيّين رومنطيقيّ متطرّف ومتصلّب، وإنّ هذا التيّار أكثر تيّارات هذين الفكر والإبداع نفوذاً وتأثيراً، من غير أن يُنتج تلك الأعمالَ الفنّيّة والإبداعيّة الباهرة التي سجّلتها الرومنطيقيّة الأوروبيّة. فـ”الإنكار”، بوصفه رفضاً للاعتراف بواقعيّة ما هو واقع، يحتلّ موقع القلب من هذا التيّار، وكلّما صُفعنا بالواقع كما هو، وكلّما كانت الصفعة مؤلمة، تصاعد الإنكار ليغدو هذياناً. وفي هذا المعنى يتقلّص، هنا، الانشغال بالفوارق الإيديولوجيّة (والتنظيميّة) التفصيليّة لأجل الاهتمام بالواحد الجامع، حيال الغرب والدولة والديمقراطيّة والتغيير والمستقبل والتقنيّة.
ولن يخفى، في الصفحات الآتية، همّ الربط بين بؤس الحاضر وتاريخ نظرة إلى العالم عبّرت عنها حركات التحرّر الوطنيّ بعسكرها وأمنها وفكرها وأحزابها وتحالفها مع السوفيات، إلخ، وقبل ذلك كلّه، وبالتضامن معه، بقسوتها حيال شعوبها التي كان المدخل إليها تعطيل الحياة السياسيّة باسم القضايا الموصوفة بالقداسة. فإذا غاب عن تناول الحاضر تناولُ أصوله، ولا سيّما الانقلاب العسكريّ والتحكّم الأمنيّ، بتنا كمن يناهض الفاشيّة أو الستالينيّة، من دون أن يكون مناهضاً للتوتاليتاريّة بالمطلق.
وفي هذا التناول، إذا تعارض نظام إيديولوجيّ فخيم لا يقوم ما يكفي من الأدلّة على صلاحه، ونسق تكراريّ دائم تفيض البراهين التجريبيّة على وجوده واشتغاله، فالانحياز هو دوماً إلى الثاني.
وبالطبع، لن تنجو هذه الصفحات من نقد يأخذ عليها قَصْر الأفكار والأعمال وقسْرها اختزاليّاً على ما هو رومنطيقيّ وما هو غير رومنطيقيّ. وهو نقد يطاول كلّ توكيد لما لم يؤكَّد قبلاً بما فيه الكفاية. والحال أنّ “الرومنطيقيّة”، في هذا الاستخدام، تنطوي على دلالة اصطلاحيّة بوصفها أكثر المدارس الكبرى، الفكريّة والإبداعيّة، التي يمكن التعرّف عبرها إلى التيّار الأعرض من الفكر السياسيّ العربيّ.
ومن بين المعاني الكثيرة التي تُقرن عادةً بها، يعتمد هذا الكتاب معنىً محدّداً للرومنطيقيّة هو ضعف الصلة بالواقع، وأحياناً انعدامها، والتغلّب تالياً على هذا الضعف إراديّاً وذاتيّاً، الأمر الذي ينبع من كون هذا الواقع قد تشكّل على إيقاع السيادة الغربيّة على العالم ممّا مَقَتَه صانعو الأفكار السياسيّة في المشرق العربيّ بوصفهم النُّخب الطامحة، والتي يقودها الطموح إلى استعجال التاريخ، أو ما تعقّلته على أنّه التاريخ، نحو تجاهل هذا التاريخ نفسه.
وفي مجافاتها الواقع، قد تذهب الرومنطيقيّة إلى ما قبله (الماضي المجيد) وإلى ما بعده (المجتمع الاشتراكيّ الأمثل أو الجنّة…) وإلى ما فوقه (بضعة مثالات على الوحدة والتحرّر والتحرير…)، لكنّها حكماً لا تذهب إليه.
فهي، هنا، بالتالي، مجاز عن غياب الواقع و/أو تغييبه والبناء على واقع مُتخيّل مصدره الذات المغلقة على ذاتها. وفي هذا المعنى يحاول هذا الكتاب أن يرصد أسباب اللاواقعيّة وعلاماتها، المباشرة منها والمداورة، في التيّارات السياسيّة والثقافيّة التي طغت على فكر المشرق العربيّ، ووفّرت الأساس المطلوب لتوطيد الطغيان وتفويت وعي المواطن العربيّ.
والرومنطيقيّة صعبة التعريف، وتالياً صعبة التحليل، إلّا أنّ العودة ستكون دائمة إلى مصادر النشأة، أي الردّ الذي عرفه القرن التاسع عشر على عقلانيّة التنوير في القرن الثامن عشر مصحوبةً بالرأسماليّة. هذا المصدر، أو الردّ، أحدث نظاماً في النظر والتأويل، جرى بموجبه تغليب الأصليّ والطبيعيّ، الذي قد يكون مُتوهَّماً، على المصنوع، وتغليب العاطفة على العقل، والثابت الماهويّ افتراضاً على المتحوّل، والقرية على المدينة، والوحدة على التعدّد، والجذور على الآفاق.
القرية. الطبيعة. الأرض. الصوفيّة. الوحدة. القوة (والجيش). الأمّة. الجذور. البطل. الذات ومبادرتها، بدل العقل والعلم والعالم. لا بل تمجيد الذات، ولو في بعض الأحيان عبر توكيد معاناتها ومظلوميّتها واستعدادها للفناء (“لو لم تكن عظيمة لما ظُلمت أو تعرّضت للتآمر”)… هذه هي وحدات الوعي الرومنطيقي المقصود في هذا الكتاب، التي تقف بالتضادّ مع التنوير والرأسماليّة ومع وحدات وعيهما: الفرد الذي يصنع نفسه. الكونيّة. الحداثة. المدينة. العلم. التقدّم. الديمقراطيّة. التجربة والتجريب إلخ.
ومثلما كان التنويرُ والرأسماليّة الشيطانَ الذي استهدفتْه الرومنطيقيّة في التجربة الأوروبيّة، كان “الغرب” ذاك الشيطان في تجربتنا العربيّة، أو أقلّه في المشرق الذي تتناوله هذه الصفحات. وبمعنى مشابه، جاء الردّ على ذاك “الغرب”، ولا يزال يجيء، في هيئة يكشفها معظم عناوين الفكر السياسيّ العربيّ في القرن العشرين: الوحدة، العودة، البعث، الأصالة، الإسلام إلخ. أمّا العناوين التي لا تندرج في هذه الخانة (اشتراكيّة، تنمية…) فلم يخلُ التعامل معها من رَمنْطَقة لها إلى هذا الحدّ أو ذاك.
وبالطبع فهذه الرومنطيقيّة ليست ما صنعَ أنظمة الاستبداد والطغيان في المشرق العربيّ التي تعود الأسباب الأفعل وراء نشأتها إلى عناصر وعلاقات ماديّة ملموسة ومرئيّة. مع هذا، شكّلت تلك الرومنطيقيّة واحداً من اثنين: إمّا علّة الوجود المعلنة لتلك الأنظمة، كحالة حزب البعث وأفكاره في سورية والعراق، أو ذريعة، إلى هذا الحدّ أو ذاك، من ذرائعها. ذاك أنّ ما تفعله الرومنطيقيّة من حجب للواقع الفعليّ ولمسائله الفعليّة (تطوير مجتمعات سياسيّة، حرّيّات، تنمية، مكافحة اضطهاد الأقلّيّات وبناء وطنيّات جامعة…) إنّما يوفّر شرطاً ممتازاً لفصل السكّان عن حياتهم وشروطها، ومن ثمّ البناء على وعيهم الزائف والمُستلَب توطيداً لتلك الأنظمة وعالمها الدلاليّ.
وعلى نطاق أضيق، اشتغلت هذه النظريّة في حيّز المنظّمات السياسيّة التي، وإن لم يُقيّض لها بلوغ السلطة، فإنّها مارستْ نفوذاً لا يُستهان به في المجتمعات المشرقيّة وعلى فئاتها الشابّة وقطاعاتها الديناميّة. يصحّ هذا، مثلاً، في علاقة الوعي الإسلاميّ بـ “حركة فتح” أو علاقة الوعي القوميّ شبه الفاشيّ بـ “حركة القوميّين العرب” ومن بعدها “الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين”، وعلى نطاق أضيق (وإن لم يكن أضيق في الخمسينيّات)، بـ “الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ”.
كذلك سارت الثقافة والإبداع إلى حدّ بعيد في ركاب تلك التصوّرات السياسيّة. فقد التحق عدد كبير من المبدعين العرب بالطروحات، وأحياناً بالتنظيمات الحزبيّة، الرائجة. هكذا عبّر بعض أبرزهم، في الشعر كما في الرواية، عن انحيازات إلى ما قبل عمليّات التمدين أو الاندراج في العلاقات الرأسماليّة العالميّة، وإلى الفجاءة والصدفة والبغتة والانخطاف في التعبير، مصحوبةً بانتظار مخلّص بطل ما، في مواجهة السيرورات التاريخيّة الأكثر تعقيداً وتضارباً.
لقد وفّرت ثورات “الربيع العربيّ” فرصة لمغادرة الوعي الرومنطيقيّ وإنشاء مصالحة تاريخيّة مع الواقع مدخلها التفكير على نحو يتفاعل مع مجتمع ودولة محدّدين بعد طول الاستغراق في “الأمّة العربيّة” و”الأمّة الإسلاميّة” و”الصراع العربيّ – الإسرائيليّ”، وحلول الصراع مع الحاكم – الذي هو ابن جلدتنا – محلّ الصراعات الإيديولوجيّة التي امتهنت الأنظمةُ استغلالها وتوظيفها بالتكامل مع تأثيرات القوى الخارجيّة. بيد أنّ هذه الفرصة هي التي انقضّت عليها الثورات المضادّة بما اتّسمت به من شراسة بلغت أقصاها، في المشرق، في التعاطي مع الثورة السوريّة. أمّا في مصر، فتكفّل الانقلاب العسكريّ لعبد الفتّاح السيسي بإطاحة الاحتمال الديمقراطيّ الناشئ. وعلى العموم، تأدّى عن ذلك خليط مشرقيّ من ديكتاتوريّة شعبويّة في مصر، ومن انبعاث وتعميق للهويّات، الدينيّة والطائفيّة والإثنيّة، وهي أصلاً ليست ضعيفة، في سورية والعراق وجوارهما. والعنصران هذان إنّما يحترفان حجب الواقع الفعليّ والاستعاضة عنه بمشاعر ما قبل الدولة الممزوجة بخطاب ما بَعدها القوميّ و/أو الإسلاميّ. في هذا المعنى لن يكون من المبالغة وصف “تنظيم الدولة”، أو “داعش”، بوصفه التتويج والخلاصة المنطقيّة للانسلاخ عن الواقع الراهن، وتالياً لأكثر أشكال الرومنطيقيّة راديكاليّةً ووحشيّة وابتذالاً في آن معاً. فإذا أضفنا تدمير مدن، كحلب ومعظم المدن السوريّة، وكذلك الموصل في العراق، وإلى حدّ بعيد بيروت، انتهينا إلى بؤس مشرقيّ نكوصيّ لا يلوح في الأفق ما يوحي بالخروج السريع منه.
والتناول الذي يحمله هذا الكتاب ليس شعبيّاً ولا جذّاباً أو “على الموضة” اليوم، في ظلّ صعود النسبويّات والهويّات والشعبويّة، ومع تراجع التنوير و”المركزيّة الأوروبيّة”، وأزمة الديمقراطيّة ونظامها، ولكنْ أيضاً في ظلّ الظافريّة التي تهيمن على سياساتنا وأفكارها، والتي تتعاظم مع تعاظم البؤس في الواقع الفعليّ. وهو، استطراداً، ليس “على الموضة” من حيث إنّه لا يشارك في تلك المهاترة الأبديّة مع “الغرب”، بل يشكّك فيها، وفي فوائدها، وفي أغراض بعض أصحابها، كذلك لا يستنكف عن الاعتماد على معارف صلبة عملاً بحجّة أنّ أصحابها “استعماريّون” و”استشراقيّون”. والأهمّ، أنّ التاريخ المحلّيّ، بما فيه تاريخ الأفكار وما هو غير محلّيّ بالضرورة من أصوله، ممّا بات يتراجع استنطاقه والبناء عليه، يملك هنا أهميّة مفتاحيّة.
والعمل هذا ينقسم إلى أحد عشر فصلاً، فيُجري الأوّل مسحاً عريضاً لمعاني المفهوم في مهده ومساره الأوروبيّين، وفي تناقضات تلك المعاني وتوافُقاتها، مع الاقتصار، من تلك التشعّبات بالغة الغنى، على ما يخدم غرض هذا الكتاب، أي السياسة والفكر السياسيّ المشرقيّ (ما بين مصر والعراق) في تيّارهما الأعرض.
ويقتفي الفصل الثاني أثر الرومنطيقيّة الألمانيّة في رحلتها شرقاً، ودور تركيّا، ولا سيّما مع انقلاب 1908، كجسر انتقال إلى العالم العربيّ، خصوصاً منه المشرق، تبعاً للتأثّر الواسع بتجربة ضبّاط “الاتّحاد والترقّي”، ومن بعدهم مصطفى كمال. أمّا الفصل الثالث، فيراجع المعنى الرومنطيقيّ الجديد للزعامة، ابتداءً بالثلاثينيّات العراقيّة، مع انتعاش الأفكار القوميّة النضاليّة المأخوذة بالابتذال النازيّ للقوميّة الرومنطيقيّة الألمانيّة، وحتّى النصف الثاني من الخمسينيّات الناصريّة، حيث التأثّر هذه المرّة باللغة السياسيّة السوفياتيّة. ويركّز الفصل الرابع على قضيّة فلسطين التي وُظّفت بسخاء لتمكين الرومنطيقيّة في حياة المشرق وأفكاره وسياساته، ولا سيّما وقد أُحلّت في موقع مركزيّ من ثنائيّتي الدين والقوميّة، والقوميّة والاشتراكيّة.
ويسترجع الفصلان الخامس والسادس تجربة الإسلام السياسيّ، السنّيّ منه والشيعيّ، حيث ضمرت الرومنطيقيّة وركدت مع حسن البنّا لتعاود اشتعالها مع سيّد قطب في مناخ النظام العسكريّ والأمنيّ، بينما استحال تطوير أيّة رومنطيقيّة سياسيّة شيعيّة بأيّ معنى حديث، لتقتصر هذه على سرديّات شخصيّة عن الألم والضنى. أمّا الفصل السابع، فيتناول الماركسيّين والشيوعيّين في موازاة الضمور الذي أصاب العقلانيّ في الماركسيّة لمصلحة الشعبويّ والرومنطيقيّ فيها، وكيف تفوّق المسرح الشرق أوسطيّ في احتضان هذا التحوّل وفي تضخيمه. وبدوره تناول الفصل الثامن بعض الأعمال الأدبيّة والشعريّة (أدونيس خصوصاً، وأيضاً عبد الرحمن منيف) وما نقلته من قيم رومنطيقيّة وعدميّة واكبت وكمّلت الفكر السياسيّ الرائج. ويتوقّف الفصل التاسع عند السعيديّة والاتّجاهات الأخرى في مناهضة الاستشراق و”ما بعد الكولونياليّة” بوصفها تعزيزاً للرومنطيقيّ في حياتنا وأفكارنا، ليناقش الفصل العاشر هذا الميل الجامع لدى سائر الجماعات الراديكاليّة ومثقّفيها إلى إنكار الطائفيّة أو التخفيف من أثرها وحضورها ودور ذلك في التطهّر الذاتيّ وتبرئة الذات الجمعيّة. وأخيراً، ومع الفصل الحادي عشر، ترتسم “داعش”، بصفتها الابتذال الأعلى للرومنطيقيّة، والنهاية الدمويّة لثورات “الربيع العربيّ”، التي أُغلقت معها الدائرة حتّى إشعار بعيد آخر.
وليس كاتب هذه السطور أوّل من استخدم مفهوم الرومنطيقيّة في تعقّل عدد من المفاهيم والسلوكات في الفكر والسياسة المشرقيّين. فقد سبق للأكاديميّ والكاتب السوريّ عزيز العظمة أن استخدم ذاك المفهوم، موجّهاً ضربات جدّيّة إلى الوعي الإسلاميّ السياسيّ. إلّا أنّه قصر تطبيقه على الإسلاميّين وحدهم، ابتداءً بجمال الدين الأفغاني(1)، وهذا علماً بأنّ الإسلاميّين، في ارتكازهم التعريفيّ على نصّ مقدّس وعلى عصر ذهبيّ، وفي ما يراه العظمة أولويّةً تُعطى للثقافة على التاريخ، وللتكراريّة الماهويّة على التحوّل، هم بالتعريف “أضعف الخصوم” في هذا المجال. وإذ جعل العظمة الوعي السياسيّ الإسلاميّ يستحوذ على الوعي القوميّ، حيث إنّ “الإسلاميّة الرومنطيقيّة هي الاسم الذي يصطفّ تحته برنامج ثقافيّ بالغ القوميّة”(2)، فقد نجا القوميّون العسكريّون كما نجت سلطتهم من اشتغال هذا المفهوم ومن دلالات ذلك، ليقتصر الأمر على رومنطيقيّة بدائيّة ولدت وعاشت خارج السلطة. وهكذا فحمولة الرومنطيقيّة عند العظمة تختلف عنها هنا، أكان لجهة مضامين الظاهرة أم لجهة حدودها.
كذلك سبق للكاتب المصريّ شريف يونس أن وضع دراسة لامعة عن سيّد قطب وشخصيّته الرومنطيقيّة(3). ولئن استفدت كثيراً من عمل يونس، كما يظهر في الفصل الخامس، فقد سبق لكاتب هذه السطور أن تناول البعد الرومنطيقيّ عند رموز الفكر القوميّ (خصوصاً ميشيل عفلق وزكي الأرسوزي) والابتذال الرومنطيقيّ عند أنطون سعادة في كتابي “قوميّو المشرق العربيّ”. إلّا أنّ ما يطمح إليه هذا الكتاب تحديداً، يتعدّى ذلك إلى البنية والمسار الرومنطيقيّين اللذين حكما، وما زالا يحكمان، تاريخ المشرق العربيّ الحديث.
إنّه يطمح إلى أن يكون دفاعاً عن التطابق مع الواقع ومع العالم، والربط بين تغييرهما باتّجاه أكثر ديمقراطيّة وحداثةً وتقدّماً وعدالةً بالإمكانات والأدوات التي يوفّرها هذان الواقع والعالم. فمن ينفصل عنهما، أو يتوهّم ذلك، يشكّل خطراً على نفسه يفوق خطره، المؤكّد أيضاً، على سواه.