مع اقتراب الذكرى السنويّة الأولى لتفجير مرفأ بيروت، ظهرت عريضة وقحة وقّعها 28 نائباً لبنانيّاً. موقّعو العريضة متحمّسون لعدم رفع الحصانة عن نوّاب ثلاثة (هم وزراء سابقون). إنّهم يريدون أن لا يحاكمهم القضاء، بل «المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء» الذي يعيّنه مجلس النوّاب. إذاً: نحاكم أنفسنا بأنفسنا.
العريضة لم تكن مجرّد محاولة لعرقلة ما يقوم به قاضٍ شجاع اسمه طارق البيطار. إنّها، قبل ذلك وبعده، صفعة للّبنانيّين عموماً، ولضحايا التفجير وذويهم خصوصاً. إنّها إعلان عن كراهية الحقيقة وتواطؤ صريح مع الجريمة والمجرمين.
إنّ فكرة «المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء» تفرك جرحنا بملح كثير.
إلى ذلك، ووفق التركيبة الطائفيّة اللبنانيّة المعروفة، انطوت العريضة على نقص هائل في الحساسيّة حيال منطقة تُعدّ مسيحيّةً بفعل وقوعها شمال بيروت، ولكون الأكثريّة الساحقة من متضرّري التفجير مسيحيّين. الهويّة الطائفيّة لموقّعي العريضة قالت ذلك على نحو صارخ: إنّهم 13 نائباً شيعيّاً، و11 نائباً سنّيّاً، و4 نوّاب مسيحيّين. فوق هذا، فهؤلاء الأخيرون يُعتبَرون منقوصي التمثيل الطائفيّ، إذ اثنان منهم وصلا إلى البرلمان على قائمتي «أمل» و«حزب الله»، والثالث يمثّل مسيحيّي مدينة طرابلس التي باتت مدينة سنّيّة كاسحة، فيما الرابع ينتمي إلى «الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ». هذا الضعف التمثيليّ زادَه أنّ اثنين من المسيحيّين الأربعة سحبا توقيعهما، كما فعل ثلاثة من الموقّعين السنّة، تجاوباً مع حملة مركّزة شنّها الرأي العامّ ووسائل التواصل الاجتماعيّ على العريضة وموقّعيها.
تلازُم هذا الحدث مع التقارب الناشئ بين الأحزاب المسلمة الثلاثة (أمل وحزب الله وتيّار المستقبل) كافٍ لتذكير المسيحيّين بمرارات كبرى ربّما كان أبرزها، في العقود الأخيرة، ثلاثاً:
– حين كانت، ولا تزال، الدعوات النضاليّة إلى التسلّح بهدف الانخراط في الصراعات الإقليميّة لا تعبأ بهم ولا تستشيرهم كـ «شركاء في الوطن».
– حين تمّ التغاضي الواسع عن تهميشهم إبّان حقبة «الوصاية السوريّة» التي امتدّت حتّى 2005 فيما استمرّ الـ business as usual.
– حين نشأ «الحلف الرباعيّ» الذي ضمّ جميع الأحزاب المسلمة الكبرى (حزب الله وأمل والمستقبل والتقدّميّ الاشتراكيّ) بُعيد انسحاب الجيش السوريّ من لبنان. هذا الحدث فُهم مسيحيّاً على أنّه رغبة في إبقاء التهميش المسيحيّ وإدامته، أكان بوصاية سوريّة أو من دونها. ميشال عون كان المستفيد الأكبر من هذا الفهم وما يلازمه من إحباط.
رداءة هذا الوعي الأكثريّ، السنّيّ – الشيعيّ، الذي كانت العريضة النيابيّة آخر تعبيراته، لا يساويها إلاّ رداءة الوعي الأقلّيّ المسيحيّ: الردّ على المرارات المذكورة بالالتفاف حول العونيّة وحول تحالفها، منذ 2006، مع «حزب الله»، والانجراف تالياً في نظريّات «حلف الأقلّيّات»، التي تقضي ترجمتها العمليّة بوضع المسيحيّين والشيعة والعلويّين في مواجهة السنّة. هنا، لم يكتفِ الوعي الأقلّيّ بفصل مشكلته عن المشكلة الأعرض لأكثريّة الشعب، بل وضعَ مشكلته في مواجهة مشكلتها وفي موقع الضدّ منها.
شكلان، ناطق وصامت، اتّخذهما هذا التوجّه:
– في النطق، كان التأييد الكبير لنظام بشّار الأسد فيما هو يمضي في قتل شعبه بسائر أدوات القتل المتاحة، ويستورد القوى الأجنبيّة لإكمال المهمّة. ذاك الموقف، في لبنان وخصوصاً في سوريّا، جعل ما كان من تباين أو تنافر بين الجماعات أقرب إلى هوّة مستحيلة التجسير.
– في الصمت، كان غضّ النظر عن انتهاك «حزب الله» لسيادة لبنان وحدوده، مع تأييد موسميّ وغير مقنع لـ «مقاومة إسرائيل» وفق تصوّر شديد الطائفيّة، وقصير النظر: إنّ الذين يُقتلون شيعة وليسوا مسيحيّين، والمهمّ، في آخر المطاف، إضعاف السنّة بأيّ وسيلة كان.
تقول هذه التجربة الرديئة بوجهيها المتلازمين كم هو صعب أن يكون الوعي الأقلّيّ معافى إن لم يكن الوعي الأكثريّ كذلك، والعكس بالعكس. لكنّها تقول أيضاً كم هو نسيجنا الاجتماعيّ والثقافيّ مُهلهَل لا ينتج من ردود الفعل إلاّ الثأريّ والانتقاميّ الذي يغرف من وعي قَبَليّ لم تشذّب الحداثةُ إلاّ أطرافه وحواشيه.
واقع الحال أنّنا، ومنذ أواسط القرن التاسع عشر ونشأة الطائفيّة، يحاصرنا سؤال حارق: هل يستطيع فكرنا السياسيّ التوصّل إلى تركيب يجمع بين استيعاب مشكلة الشعب، أو أكثريّته (حيث يندر الاعتراف بوجود مشكلة أقلّيّات، وأحياناً بوجودها نفسه) واستيعاب مشكلة الأقلّيّات (حيث يندر الاعتراف بوجود مشكلة تعانيها أكثريّة الشعب)؟
لقد جاءت فضيحة العريضة تذكيراً صغيراً بحقيقة بالغة الضخامة والعراقة في حياتنا العامّة.