لوهلة، قد تبدو المقارنة غريبة أو مفتعلة، إذ لا توجد أيّة علاقة، لا في المضمون ولا في السياق، بين اتّفاق القاهرة الموقّع عام 1969 وتفجير مرفأ بيروت الذي مرّت ذكراه السنويّة الأولى قبل أيّام قليلة.
اتّفاق القاهرة الذي وقّعته السلطة اللبنانيّة ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة ورعاه جمال عبد الناصر بكامل جلاله، اكتسب للأسباب هذه مُحتَرميّةً لا يمكن أن يحظى بمثلها تفجير المرفأ. النذالة والحقارة، فضلاً عن الجرميّة الساطعة، هي وحدها ما توصف به، وبحقّ، فعلة 4 آب 2020. هنا، ما من رسميّين، كائنين مَن كانوا، وقّعوا اتّفاقاً معلناً يقضي بجواز تخزين نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت. ما من دولة إقليميّة رعت اتّفاقاً كهذا.
مع هذا، فالمشترك الأوّل بينهما هو تخلّي الدولة اللبنانيّة عن جزء أساسيّ من سيادتها لطرف أهليّ مسلّح هي أضعف منه. في 1969، ضمنت الدولة لمنظّمة التحرير أن تكفّ يدها عن شطر من لبنان أرضاً وسكّاناً. اليوم، هناك إقرار صريح من الدولة بأنّ شطراً كبيراً من البلد ومن القرار السياسيّ ليس في عهدتها.
المشترك الثاني هو في النتيجة: اتّفاق القاهرة أنتج وضعاً فجّر الحرب، بدايةً في 1973 ثمّ على نطاق أكبر في 1975، ومن ثمّ كان الاجتياحان الإسرائيليّان في 1978 و1982. التخلّي الحاليّ كانت نتيجته جريمة المرفأ التي تزامنت ذكراها الأولى مع غارات جويّة إسرائيليّة تحدث لأوّل مرة منذ 2006. الإسرائيليّون أرفقوا عدوانهم الأخير بتحميل الدولة اللبنانيّة مسؤوليّة ما يجري داخل أراضيها. تحدّثوا عن استهدافهم منطقة أنفاق وقواعد صواريخ ومركز قيادة ميدانيّة لـ«حزب الله». بين هذه ونيترات الأمونيوم قرابة لزاميّة.
هذا التعيين لا يبرّئ الدولة. إنّه، على العكس تماماً، يعزّز اتّهامها. إنّها دولة مُتخلّية، ومَن يكون مُتخلّياً يدفعه تخلّيه إلى الفساد والإهمال، حتّى لو لم يكن بالأصل كذلك، فكيف حين يكون بالأصل كذلك؟
ذاك أنّ الحكمة التي تعمل الدولة بموجبها في حالتي التخلّي، السابقة والحالية، هي التالية: هذا أمر لا يخصّنا. إنّه يخصّهم وحدهم. في 1969، لم يعد يخصّ الدولةَ جزءٌ أساسيّ من الأرض والسكّان. الآن، لا يخصّ الدولةَ المراكزُ والمواقع والمعابر التي يرى «حزب الله» أنّها «استراتيجيّة»، أكان للانتقال إلى سوريّا والدفاع عن نظامها «ضدّ عدوّ تكفيريّ يدعمه أعداء الخارج» أم «لمحاربة العدوّ الصهيونيّ». هذه حجج لن يصمد في وجهها، ولن يفكّر في مقاومتها، رئيس أو وزير أو موظّف، عسكريّاً كان أم مدنيّاً. مشاطرة السيادة هو، هنا، أصل الفساد والإهمال.
جرعة إضافيّة من السينيكيّة قد تخدم أيضاً في هذه الوجهة. شكل السينيكيّة في 1969 كان: فلنترك رقعة من الأرض يتقاتل فيها الفلسطينيّون والإسرائيليّون. من يسقط منهم، ومن الجنوبيّين اللبنانيّين، بعيدون عنّا في بيروت وجبل لبنان.
شكل السينيكيّة الراهن وصفَه الزميل عمر قدّور على حسابه الفيسبوكيّ بأدقّ ما يمكن: «كلّ واحد من المسؤولين اللبنانيّين عن انفجار النيترات ارتكب جريمتين: القتل غير المتعمّد للبنانيّين الذين قُتلوا في الانفجار، والقتل المتعمّد للسوريّين الذين قُتلوا بالكميّات المسحوبة الذاهبة إلى بشّار الأسد. كان يعرف؟، نعم كان يعرف، وكان يظنّ أنّ الأمر لن يتعدّى قتل السوريّين».
سينيكيّة السلطة ليست كلّ شيء، وهذا ما يجعل المشكلة أعقد كثيراً. ذاك أنّ اتّفاق القاهرة بالأمس والامتياز السلاحيّ لـ «حزب الله» اليوم مطلبان يتمتّعان بشعبيّة لا يمكن الاستهانة بها. هنا يكمن سبب التأتأة لدى تناول الفساد والإهمال بوصفهما من نتائج سياسة التخلّي والتسليم. الإشارات الكثيرة إلى علاقة نيترات الأمونيوم بحرب بشّار الأسد، ومعه «حزب الله»، على الشعب السوريّ، لا تقول إلاّ ذلك. حجم الضربة الإباديّة أكبر كثيراً من فساد وإهمال عاديّين مثلهما مثل أيّ فساد أو إهمال.
عدم القدرة على قول هذا والعمل بموجبه يجعل كلّ تقدّم إلى الأمام احتمالَ تقهقر إلى الوراء. يجعل المحاولة الشجاعة للقاضي بيطار أكثر شجاعةً، إنّما أقلّ حظّاً. يجعل الغرق في التفاهات أفقاً رحباً. يجعل تجاوز 8 و14 آذار، الذي فرحنا به في 17 تشرين، يرتدّ نكوصاً إلى «حركة وطنيّة» و«جبهة لبنانيّة»، على ما أوحت الاشتباكات الأخيرة بين «القوّات اللبنانيّة» والشيوعيّين. إنّه، كما يقول التعبير الشعبيّ، «تخبيص خارج الصحن». مع هذا، ليس سهلاً مدّ اليد إلى الصحن الذي يقدّسه كثيرون. كلّ يد تمتدّ تُقطَع.
هذا بالطبع ليس تبرئة للفساد والإهمال، لكنّه إعادة إدراج لهما في سياق أعرض هو النزاع الإقليميّ وانخراط لبنان فيه، وتالياً الوفاء بـ«التزاماته الحربيّة». هذا التعيين، فضلاً عن جعله المشكلة أصعب، يمنع الحقيقة، أكان في جريمة 14 شباط 2005 أو في جريمة المرفأ. المصيدة هي بالضبط أنّ الحقيقة تساوي حرباً أهليّة. هذا ما حصل بعد اتّفاق القاهرة، والعياذ بالله.