قد يبدو إجراء مقارنة بين سقوط كابول أمام مقاتلي حركة طالبان وبين سقوط مدينة سايغون الفيتنامية، بالصور الأيقونية التي تُظهر المروحيات الأمريكية وهي تجلي الموظفين الأمريكيين من أعلى أسطح بنايات المدينة، مجحفاً بالنسبة لفيتنام الجنوبية. فقد استمرت هذه الدولة لأكثر من عامين بعد مغادرة القوات الأمريكية في بدايات عام 1973، إلى أن سقطت سايغون في أبريل/نيسان عام 1975. لكن الجيش الأفغاني انهار حتى قبل أن تغادر القوات الأمريكية بالكامل.
خروج “مهين” من أفغانستان سيظل يطارد بايدن
تقول صحيفة Haaretz الإسرائيلية إن هذا الأمر يعد “إهانة شخصية” للرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي قال قبل شهر واحد فقط إن “طالبان ليست جيش فيتنام الشمالية. لا يمكن مقارنتهما بأي وجهٍ من ناحية القدرات. فلن يكون هناك أي ظروف حيث نرى فيها الأشخاص يُحمَلون من أعلى أسطح سفارة الولايات المتحدة في أفغانستان”.
ليس هناك سوى قليل من الرؤساء الأمريكيين الذين يصلون إلى المنصب وفي جعبتهم خبرة سياسة خارجية تُقارن بما في جعبة بايدن، التي اكتنزها على مدار عقود قضاها في لجان مجلس الشيوخ ذات الصلة بالسياسة الخارجية (فقد كان عضو مجلس شيوخ لأول مرة في تاريخه في نفس الوقت الذي سقطت فيه سايغون) بجانب 8 سنوات قضاها في منصب نائب الرئيس الأسبق باراك أوباما. خلافاً لسلفه دونالد ترامب، الذي حاول بايدن إلقاء اللوم عليه في الأيام الأخيرة لإخفاقه في التعامل مع طالبان، فإن بايدن يقرأ أوراق إحاطة الاستخبارات يومياً.
لا بد أن تطمينات بايدن المبهجة كانت مستندة إلى تقييمات دوائر الاستخبارات الأمريكية. سوف تواصل هذه التطمينات مطاردته شخصياً، مثلما طورد أوباما بتعهد “الخط الأحمر” الذي أطلقه فيما يتعلق باستخدام نظام الأسد الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين من الشعب السوري، والذي قال إن تجاوزه سوف يعني معاقبة نظام الأسد، إضافة إلى تأكيده على أن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ليس إلا “فريق مبتدئين”.
لم يتبين بعد ما إذا كان هذا سوف يضر المكانة السياسية لإدارة بايدن محلياً أو الثقة الدولية فيها. وأي ضرر محلي محتمل لن يدوم طويلاً على الأرجح. إذ إن “أطول حرب” خاضتها أمريكا لا تحظى بشعبية في البلاد. ومغادرة أفغانستان، حتى في ظل هذه الظروف المهينة، هي ما تريد الغالبية العظمى من الشعب الأمريكي أن يفعله بايدن.
ماذا يعني الذي حدث في أفغانستان بالنسبة لحلفاء أمريكا في الشرق الأوسط؟
بيد أن ما يعنيه هذا لحلفاء أمريكا التقليديين هو شيء آخر. بالنسبة لكثير من هؤلاء الحلفاء، كانت انتخابات العام الماضي بمثابة تنفس الصعداء بدرجة كبيرة. إذ إن ولع ترامب بالديكتاتوريين -بمن فيهم خصوم أمريكا، بدءاً من فلاديمير بوتين ووصولاً إلى كيم جونغ أون- إضافة إلى ازدرائه الصريح لحلف الناتو، ألحق بمكانة الولايات المتحدة ضرراً أشد من أي إجلاء سريع للقوات الأمريكية من أفغانستان.
استعاد بايدن هذه المكانة. وحتى هؤلاء الحلفاء الذين فضلهم ترامب -وعلى رأسهم إسرائيل والسعودية والإمارات- شعروا بالارتياح بسياسات بايدن حتى الآن. لم يضغط بايدن على إسرائيل لتقديم تنازلات كبيرة للفلسطينيين. ولم يهرع بالعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، ولم يتحرك أيضاً في طريق تنفيذ تهديداته السابقة لانتخابه، التي قال فيها إنه “سيجعل السعوديين يدفعون ثمن سجلهم الحقوقي”.
لكن بايدن ليس المشكلة. صحيحٌ أن كارثة كابول حلت في عهده، لكن الإخفاق يمكن مشاركته بين الإدارات الأربع منذ أن أطلقت الولايات المتحدة أولى حملاتها في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، قبل حوالي 20 سنة.
بل إن التأثير الحقيقي على حلفاء أمريكا، ولا سيما إسرائيل والأنظمة العربية المؤيدة للغرب، هو أنهم يرون أن أمريكا الآن وفي المستقبل القريب لديها وعي متزايد بحدودها.
تقول هآرتس: ليس ذلك جديداً تماماً. فقد كان واضحاً بالفعل من السنوات الأخيرة لولاية جورج دبليو بوش بأنه بمجرد أن بدأت حملة أفغانستان والعراق تتعثر، لم يكن هناك مزيد من الرغبة لخوض مغامرات خارجية. تنحى بوش جانباً في عام 2008، عندما غزت روسيا جورجيا، وهي دولة مؤيدة للغرب. وتخلى أوباما علناً عن محمد حسني مبارك، أقدم حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط، ونكث بوعده بأن يحمي السوريين من الأسلحة الكيميائية، ولم يفعل شيئاً لمساعدة أوكرانيا عندما غزت روسيا شبه جزيرة القرم في 2014 وضمتها إليها.
الأمريكيون لم يعودوا متأهبين لبعثرة أرواح جنودهم في الشرق الأوسط
قدم أوباما على الأقل دعماً لفظياً. أما ترامب فلم يكترث كثيراً بكل وضوح. ومع كل الحديث الذي صدر منه حول مهاجمة إيران، باستثناء اغتيال الجنرال قاسم سليماني، لم يضع الأمر بجدية في حسبانه إلا عندما خسر الانتخابات وخسر سيطرته على وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون).
كان أوباما وترامب متأهبين في بعض الحالات لاستخدام سلاح الجو، برغم أن الأوروبيين هم من جرّوا أوباما من أجل مساعدة الثوار في ليبيا، بينما كان اندفاع داعش لإعدام أسرى التنظيم من مواطني الدول الغربية هو ما جعله يوافق على الغارات الجوية ضد التنظيم. وكان واضحاً أن عهد وجود “الجنود على الأرض” قد ولّى منذ وقت طويل.
الإدراك بأن الأمريكيين لم يعودوا متأهبين لبعثرة أرواح جنودهم لم يكن الأثر المستمر الوحيد للإخفاقات العسكرية على مدى العقدين الماضيين. بل يضرب الأمر في جذور أعمق من ذلك. مثلما قال بايدن يوم السبت 14 أغسطس/آب، إن الوجود العسكري الأمريكي “لم يكن سيحقق فارقاً إذا كان الجيش الأفغاني لن يستطيع السيطرة على بلاده، أو لن يسيطر عليها”.
سواء أطلقت على الأمر بناء أمة أو تغيير نظام، أدركت أمريكا -على الأقل في الوقت الراهن- أن الأمر لا ينجح إلا إذا كان هناك أمة تريد تغيير نظامها.
لم تتخلّ أمريكا عن عن حلفائها. فسوف يكون من الإجحاف الصارخ أن نصف استثماراً لحوالي 20 عاماً، تكلف ضحايا أمريكيين مقدرين بحوالي 2400 شخص، وحوالي تريليون دولار، بهذا الوصف. بل إنها ببساطة لا تستطيع مساعدتهم إذا كانوا عاجزين عن مساعدة أنفسهم.
على حلفاء أمريكا الدفاع عن أنفسهم بأنفسهم
تقول الصحيفة الإسرائيلية إن الولايات المتحدة لا تستطيع إصلاح دولة فاشلة. بالنسبة لإسرائيل، المحاطة بدولتين فاشلتين في لبنان وسوريا، ودولتين يمكن أن تكونا بسرعة على حافة الفشل في مصر والأردن، يعد هذا استنتاجاً واقعياً.
كما أن المثير للسخرية أنه خلال العقدين الأخيرين للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وأفغانستان، كان التدخل العسكري الأجنبي الوحيد الذي حقق أهدافه هو تدخل روسيا في سوريا. فقد اتضح أن إنقاذ ديكتاتور ودعمه عن طريق قصف المستشفيات والمخابز في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة، مثلما فعلت القوات الجوية الروسية نيابة عن نظام الأسد، أسهل بكثير من تأسيس ديمقراطية ومساواة من أجل النساء في مجتمعٍ متغلغلٍ في القبلية والتدين.
ولعل الطريقة الوحيدة لتدمير طالبان تكمن في محو قرى بأكملها ومحو المجتمعات التي تؤويها هذه القرى، وتلك ليست الطريقة التي تخوض بها أمريكا حروبها في القرن الحادي والعشرين. وذلك شيء جيد. وبرغم جميع أخطائها، فإن أمريكا ليست روسيا. لكن حدودها تعني أن حلفاءها يجب عليهم أحياناً أن يدافعوا عن أنفسهم.
تقول الصحيفة إن الاستنتاج الأكثر إلحاحاً بالنسبة لإسرائيل هو أنه إذا كان لبنان محاطاً بالفوضى، التي قد تكون وشيكة، فلن تكون إسرائيل قادرة على الاعتماد على الولايات المتحدة أو أي طرف آخر لمنع حزب الله من السيطرة على البلاد. وذكرى كابول، سوف تحتاج إلى سنوات من أجل أن تتلاشى، إذا لم يستغرق نسيانها عقوداً.