جلسة استماع داخل الكونغرس مع أعضاء من إدارة بايدن لشرح ماذا يحدث في أفغانستان في الساعات الأخيرة من سقوط كابل في يد «طالبان»، تحوّلت إلى مهزلة وكشفت عن الفوضى العارمة. أثناء الاستجوابات انهالت تغريدات في «تويتر» من صحافيين وناشطين تحمل مقاطع مصورة ومعلومات عن قرب سقوط كابل، أحالها أعضاء الكونغرس للجالسين أمامهم من المسؤولين الذين قاموا بدورهم بالاطلاع عليها متعجبين والصدمة تتملكهم.
لا أحد يعرف ماذا يحدث، حتى الرئيس نفسه الذي قال إن الجيش الأفغاني سيصمد لوقت طويل. وزير الخارجية أنتوني بلينكن قال للصحافيين، بنبرة ممتعضة، إنه تحدث مع الرئيس أشرف غني الذي أكد له أنهم صامدون ومستمرون في القتال في الوقت الذي كان يجهز حقائبه للمغادرة. الاستخبارات الأميركية وقادة الجيش عرفوا برحيله من وسائل الإعلام. مشهد لا يكاد يصدق من انعدام الكفاءة وسوء الإدارة.
كل هذه المشاهد جعلت الانسحاب بعد 20 عاماً ذليلاً وغير مشرّف للأميركيين أنفسهم الذين ضحّوا بأبنائهم للقتال في بلاد بعيدة وغريبة عنهم. ولكن هل يعني هذا انهزاماً للقوة الأميركية وتراجعاً لنفوذها حول العالم كما يقول خصومها هذه الأيام؟
إن هذا الحدث التاريخي فتح الباب على مصراعيه للدعايات المعادية؛ الجمهوريون في الداخل يشنون حملة متوقعة لأسباب حزبية محضة، ولو كانت هذه الفوضى وقعت في عهد ترمب لقام الديمقراطيون بشن حملة مضادة. الإسلاميون والمتعاطفون معهم يصورون الأمر باندحار الاحتلال الصليبي وصعودهم. وكذلك الصينيون الراغبون في تصوير هذا الانسحاب على أنه علامة مؤكدة على انهيار وتآكل القوة الأميركية حول العالم. والإيرانيون ومحازبوهم يقولون إن أميركا تتخلى عن حلفائها بسرعة.
ولكن كل هذه مبالغات مفرطة أو تحليلات متعجلة. قرار بايدن نابع من تصور شبه متفق عليه سياسياً وشعبياً بأن أفغانستان حرب محكوم عليها بالفشل بعد 20 عاماً، وأنفقت عليها أكثر من تريليوني دولار. بايدن أطلق الرصاصة على المريض المحتضر، وقد قال مراراً إنه لن يسلم الجثة ليحملها رئيس بعده. لا يعد هذا تخلياً عن حليف موثوق ولكن رغم المحاولات المضنية عجزت الولايات المتحدة عن بناء دولة مركزية تسيطر على جميع أرجاء البلاد. لقد بنت جسوراً ومدارس ومستشفيات وتركتها مهجورة لأن الدولة هشة. أسست جيشاً كاملاً انهار في أيام وتخلى عن عتاده الحديث. وبالتأكيد لم تعد قادرة على خلق نظام ديمقراطي في بيئة غير صالحة. لواشنطن صداقات طويلة وحلفاء موثوقون منذ صعودها بعد الحرب العالمية الثانية ولم تتغير. حتى الدول التي هزمتها مثل ألمانيا واليابان ساعدت على إيقافها على قدميها وتحوّلت لأقرب حلفائها. في المقابل، كل الدول التي فشلت فيها وانسحبت تشترك بضعف بنية الدولة؛ العراق، ولبنان، وفيتنام، وأخيراً أفغانستان.
هل يعني الانسحاب نهاية قوتها عالمياً كما يروج الصينيون؟ لا، لأنها معركة صغيرة في حرب التاريخ الطويلة. وهي شبيهة بالانسحاب من فيتنام التي خرجت منها أميركا مهزومة، ولكنها لم تضعف الهيمنة الأميركية على العالم بل العكس هو ما حدث.
منذ السبعينات تضاعف حجم الاقتصاد الأميركي ليصل إلى ما يعادل ثلث الاقتصاد العالمي مجتمعاً، وتضاعف الإنفاق العسكري ليصل إلى 778 مليار دولار. الانسحاب من فيتنام كان مهيناً ولكنه لم يقد إلى التراجع أو الإخفاق.
في كتابه «أسطورة الانهيار الأميركي» يحلل الكاتب جوزف جوف الوعود المتكررة، مع كل حدث كبير يتم الحديث عن الانهيار الأميركي الوشيك. القائمة طويلة عندما أُطلقت وعود جازمة بقرب النهاية لكن تبين أنها غير دقيقة. حدث ذلك سابقاً مع الاتحاد السوفياتي. دبّ الذعر في قلوب الأميركيين مع إطلاق الاتحاد السوفياتي القمر الصناعي «سبوتنيك 1» عام 1957. انتشرت حينها في الصحافة قصص الانهيار القريب. هناك مَن تنبأ بأن الاقتصاد الروسي سيتجاوز الاقتصاد الأميركي بشكل أسرع من المتوقع، وستعلن أميركا الهزيمة المذلة أمام تصاعد قوة الصواريخ الروسية. قصة الهزيمة الأميركية المؤكدة أمام الاتحاد السوفياتي ثبت أنها مجرد أسطورة. الذي انهار هو الاتحاد السوفياتي. وتكررت القصة مرة أخرى مع اليابان مع الصعود السريع للاقتصاد قبل أن يتباطأ والآن مع الصين.
ولكن النقطة المهمة في نهاية كتابه عندما قال إن أميركا هي وحدها القادرة على هزيمة نفسها. عندما تقرر بنفسها الانسحاب من العالم وتسيطر عليها روح انهزامية يروج لها بعض السياسيين.
هذا في الواقع غير صحيح ولم يحدث حتى الآن حتى مع الظرف الحالي. لو رجعنا لطريقة تفكير الرئيس بايدن لوجدناه مؤمناً بعمق بالنظام العالمي الليبرالي، وهذا السبب الأساسي لقناعته المترسخة بضرورة إعادة التحالفات بسرعة مع القوى الأوروبية بعد أن تضررت في عهد الرئيس ترمب. ولو دققنا في أسباب إدارته بالانسحاب (إلى جانب الأسباب الداخلية) لوجدنا أنها تتحدث عن تركيز جهودها على مواجهة الصين وروسيا وقد كرر مراراً أن موسكو وبكين تنظران للمستنقع الذي نغرق فيه وتطلقان الضحكات. ورحلة نائبة الرئيس هاريس لسنغافورة وفيتنام من أجل إيصال هذه الرسالة بوضوح.
الجماعات الإرهابية لا تمثل تحدياً كبيراً للإدارات الأميركية لأنها لا تبشر بنظام دولي مختلف كما تقوم به الصين أو روسيا. لقد قامت «القاعدة» بأقوى عملياتها في التاريخ في هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، ولكنها لم تستطع أن تشكل نظاماً سياسياً يتحدى القوى الدولية التي تحالفت ضدها وأضعفتها. وذات الشيء حدث مع «داعش» الذي بشر بدولة لم تدم 4 سنوات. إيران والتنظيمات المتطرفة الأخرى غير جاذبة حتى لمواطنيها الذين يهربون منها متشبثين بالطائرات. من المستبعد وغير المنطقي أن تتوقف حرب الغرب على التنظيمات العنيفة، ولكن مواجهة التطرف حرب طويلة لن ينجح فيها إلا المسلمون أنفسهم.
معركة واشنطن الأساسية هي مواجهة الدول الكبرى القادرة على هزيمتها وإضعاف هيمنتها على العالم، وهذا هو السبب الذي جعلها تتجرع هذه الهزيمة وتتخلى عن أفغانستان بتلك الطريقة المذلة التي ما زالت فصولها تعرض على شاشات التلفزيون.