أمر طبيعي أن تظهر بين السوريين مواقف متباينة وأحياناً متعارضة من التطورات التي جرت في أفغانستان إثر الانسحاب الأميركي وتسلم حركة «طالبان» السلطة، وذلك تبعاً لتباين انتماءاتهم وتعارض اصطفافاتهم واختلاف الحاجة عند بعضهم لتوظيف تلك التطورات في خدمة أهدافه ومصالحه الخاصة.
بدايةً، إذا تجاوزنا ملايين السوريين الموجودين في مناطق سيطرة النظام الذين لا يعنيهم اليوم المشهد الأفغاني وربما لا يملكون ترف الاهتمام به، ما داموا تحت وطأة معاناة شديدة لتوفير أبسط المستلزمات الحيوية لأهلهم وأطفالهم، ويكابدون الأمرّين من شح الخدمات الأولية، كالماء والكهرباء والوقود والرعاية الصحية، فلا بد أن نقف عند ملايين المهاجرين واللاجئين الذين باتت غالبيتهم تعبّر عن قلق صريح من تداعيات المشهد الأفغاني على فرصهم وشروط حياتهم مع احتمال فتح الباب أمام تدفق مزيد من اللاجئين، وازدياد وزن التيارات الشعبوية الغربية الرافضة لهم.
لمرتين، تبدو السلطة السورية أكبر الرابحين من تداعيات المشهد الأفغاني؛ المرة الأولى، عبر إظهار شماتتها بما عدتها «هزيمة» لخصمها اللدود الولايات المتحدة، حيث سارعت وسائل إعلامها للتعبير عن فرحتها بفشل واشنطن، وللطعن بصدقية ما تدعيه من شعارات لنصرة الشعوب، معتبرة أن ما حصل في أفغانستان درس بليغ، غامزة من هذه القناة إلى بعض أطراف المعارضة التي عوّلت على واشنطن لنجدتها وطالبتها بالتدخل العسكري لردع عنف النظام أسوة بما حصل في ليبيا، وأيضاً إلى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي تربطه بالتحالف الدولي ضد «داعش» علاقات وثيقة، والذي بات يتحسب جدياً من أن تتركه واشنطن من دون حماية، ليغدو لقمة سائغة بين ناري النظام السوري وحكومة أنقرة.
«لا مكان بيننا لمن باع وطنه وارتهن للأميركان» عبارة يمكن أن تسمعها من موالين للنظام السوري شجعهم المشهد الأفغاني على دفع موقفهم إلى الحد الأقصى، متناسين تعدد التدخلات الأجنبية في سوريا وخفة أو انعدام القيم الوطنية عند قادة النظام الذين استسهلوا التفريط في الوطن وفي وحدة مختلف مكوناته الاجتماعية لقاء استمرارهم في السلطة، والذين لا نعرف إلى أي درجة سوف يتحسسون رؤوسهم هلعاً في حال اضطرت القوات الروسية والإيرانية إلى الانسحاب من سوريا.
المرة الثانية، توظيف المشهد الأفغاني للتذكير بصواب ما روّجت له السلطة من مخاوف عن حكم الإسلامويين، متوسلةً نهج حركة «طالبان»، وأيضاً صور ازدحام عشرات الألوف من الأفغانيين وهم يحاولون الفرار، ثم إشارات رخيصة عمّا يُحتمل أن تتعرض له الأقليات في سوريا لو تمكن الإسلام السياسي من الاستيلاء على الحكم، متناسين ما حلّ بالشعب السوري من ويلات طالت الملايين وأكرهتهم على ترك بلادهم والهرب إلى أماكن آمنة، عبر مغامرات خطيرة، كان للبحار النصيب الأكبر من ضحاياها.
أما جماعات المعارضة السورية، فقد اختلفت مواقفها من المشهد الأفغاني، باختلاف مرجعياتها الآيديولوجية والسياسية، حيث سارع اليساريون كعادتهم إلى التهليل بالانتصار الجديد على «الإمبريالية الأميركية»، وخصص القومجيون جلّ اهتمامهم للسخرية من الأكراد وقالوا عنهم إنهم لا بد أن يلقوا مصيراً مشابهاً عندما تدير واشنطن ظهرها لهم، حتى لو أكرههم ذلك على الارتماء في أحضان النظام أو بناء توافقات مذلّة معه، وقد بات، بعد المشهد الأفغاني، أقدر على ابتزازهم، بينما ذهبت جماعات إسلاموية وفي مقدمتها تنظيم «الإخوان المسلمين» و«المجلس الإسلامي السوري»، إلى اعتبار انتصار «طالبان» انتصاراً عالمياً لحَمَلة راية الإسلام السياسي، ويصب في مصلحة إعادة الثقة بالمشروع الذي تعرض لهزة كبيرة بعد انكشاف دوره المغرض والتخريبي في حراك الربيع العربي، في حين أشادت معظم الفصائل الإسلاموية المسلحة في الشمال السوري، كجبهة تحرير الشام «النصرة» وغيرها من التنظيمات المتشددة، بـ«هزيمة المستعمر وأعوانه» على يد «إخوة الإيمان»، وسارعت لإرسال مباركتها لشعب أفغانستان، وشجعت عناصرها على توزيع الحلوى فور دخول «طالبان» العاصمة كابل، كما حضّت أئمة المساجد على التكبير احتفاءً بالنصر!
لفهم حقيقة ما جرى، وفي مقاربة بين المشهد الأفغاني وما آلت إليه أوضاع سوريا، لم يهدأ أصحاب الهمّ الديمقراطي من طرح الأسئلة المؤلمة والمريرة… أهو الحظ العاثر أم غياب الشروط الحافزة أم قوة الأعداء، أم ثمة أسباب أخرى، تقف وراء تعثر شعوبنا وإخفاقها في الخلاص من الاستبداد والتخلف؟! هل كانت واشنطن تهدف، كما تدّعي، من حربها في أفغانستان ضرب الإرهاب فقط، أم أن انسحابها هو إعلان فشل ما أثارته عن خطة لنشر الديمقراطية في مجتمعاتنا، أسوةً بما حصل في العراق؟ لماذا لم تتمكن الولايات المتحدة خلال عشرين عاماً من تنمية المجتمع الأفغاني وتأهيله للاندماج بالحداثة والحضارة الإنسانية؟ هل يكمن السبب في ميلها للأساليب العسكرية والأمنية وعدم بذل جهود كافية على الصعيد التنموي، اقتصادياً واجتماعياً؟ أم لأن ما تم إعداده من كوادر سياسية وإدارية لبناء مؤسسات الدولة الأفغانية لم يكونوا على قدر المسؤولية ونخر صفوفهم فساد مستشرٍ؟ أم يعود السبب إلى تجذر الفكر الدينيالمحافظ في المجتمع وإلى التركيبة الأفغانية التي لا تزال تحكمها الروابط العشائرية والقبلية، أو ربما إلى جهود خاصة لتفعيل الإسلام السياسي بذلها أعداء البيت الأبيض لإفشال مراميه في أفغانستان؟
مثلما هو حزن السوريين على ما حل بوطنهم عميق، فإن غالبيتهم سيحزنون بلا شك على ما حل بأفغانستان، خصوصاً لجهة ذهاب المجتمع نحو مزيد من الإحباط التنموي والفقر، والأهم لجهة تنامي الفرص، بعد إحكام قبضة «طالبان» على الفضاء المدني والثقافي، مع ازدياد المخاوف من تعميق الاصطفافات والتخندقات على أساس طائفي ومذهبي، وشحن الأجواء بنوازع المغالاة والمشاعر الإقصائية، مع ما يمكن أن يتبع ذلك من احتمال عودة أفغانستان مرة أخرى قاعدة لتصدير الإرهاب من قبل تنظيمات إرهابية مثل «القاعدة».
عبد الرحمن الراشد:أفغانستان وفشل المشروع السياسي
السبب في محنة الولايات المتحدة في هجمات 11 سبتمبر عام 2001 التطرف الديني السياسي الذي ولد الإرهابيين من نفذوا الهجمات. وهذه جملة مشحونة لا تعني التدين بل تسييس الدين.
غزو واحتلال أفغانستان كان للتخلص ممن نفذ الهجوم. الهدف الأوسع وهو التخلص من الإرهابيين كان يتطلب استراتيجية لمحاربة الفكر المتطرف، المحرك الأساسي لـ«القاعدة» ثم «داعش» و«جبهة النصرة» وغيرها.
أميركا انتصرت عسكرياً سريعاً في أسابيع، انهار نظام طالبان وفر قادة «القاعدة» الناجون إلى إيران وباكستان. لكن الفكر والتنظيم السري لهذه الجماعات لم يمت، بل أنجبت «القاعدة» تنظيمات مثل «داعش». ورجعت طالبان للحكم بالسلاح، رغم مرور عشرين عاماً من طردهم وملاحقتهم.
من التحديات التي واجهتها القوة الأميركية خلال العقدين في إدارة كابل مواجهة الفكر المتطرف الموروث عن حكم طالبان، ويصدر إليها عبر الحدود من إيران وغيرها الذي لا تنفع معه أحدث الأسلحة وأشرسها.
من يراجع ماذا فعلت إدارات بوش، وأوباما، وترمب هو اعتمادها على علاجين؛ القوة والمال. تخليص أفغانستان من طالبان وبناء دولة حديثة حليفة.
حاربت طالبان بالسلاح والدولارات. أنفقت أكثر من 180 مليار دولار على الجيش والأمن والمدارس والمستشفيات والطرق والحكومة والبرلمان وانتخابات محلية وقومية. كلها تبخرت حتى قبل الموعد المضروب للانسحاب.
عدا عن مشكلة الفساد المصاحب للمشاريع والذي خلق طبقة حاكمة غير وطنية، فإن 38 مليون أفغاني كونوا شعباً بلا رابطة، رغم أن واشنطن كانت تنفق 750 مليون دولار سنوياً كمرتبات على الموظفين الأفغان.
مشكلة «المشروع الأفغاني» أنه أميركي الهوية والفكرة، تريده واشنطن يشبهها سياسياً واجتماعياً، وهو أمر مقبول لو كانت التربة الأفغانية صالحة لهذه القفزة البعيدة، مثلما فعلت في المانيا بعد الحرب العالمية الثانية ودحر النازية. أفغانستان، مثل معظم دول العالم الثالث، ليست مستعدة ولم تعش التجربة الغربية ذات القرون الثلاثة.
الجدل طويل وقديم حول أهلية المجتمعات النامية، الذي يغضب الحديث عنه البعض من المفكرين ويعتقدون فيه انتقاصاً من الإنسان في هذه الدول. نحن لا نناقش المبادئ والفلسفة بل التطبيقات والنتائج. ولو كان المشروع التحديثي المستنسخ صالحاً وناجحاً لما استولت طالبان بدون طلقة رصاص واحدة على بلد مساحته نحو ثلاث مرات مساحة بريطانيا. لم ينقص الأفغان السلاح، بل كان جيشهم أضخم من جيش فرنسا، 300 ألف مقاتل أفغاني ولم يقاتلوا. ولم تكن طالبان أقوى منهم، جيش الأفغان استسلم ولم يحارب حتى.
لماذا؟ لأنه لم تكن هناك رابطة تجمعهم. رغم عشرين عاماً لم ينجح الأميركي في خلق مشروع وطني حقيقي. التجربة البرلمانية لم تخلق العقد الاجتماعي الذي ستدافع فيه القبائل ومواطنوها عنه.
بالفعل، حصد ملايين الأفغان على مكتسبات كثيرة سيفقدونها تحت حكم طالبان، اجتماعية وسياسية واقتصادية. هذه المكتسبات تشبه الحياة في شركة ما.
في حين أن الجماعات التي قاتلت الأميركيين استخدمت الدين والقبيلة كرابطة تجمعهم تحتها وتمنحهم الجنة مكافأة لمن يُقتل دونها. وحتى المشروع الطالباني الديني محكوم عليه بالفشل، وسهل الطعن فيه من طوائف ومدارس وقيادات أكثر تطرفاً ما لم يلم كل الأفغان تحته، ويستوعبهم وهو أمر مستبعد.
كان هناك وطن ومشروع وطني في أفغانستان سقط مع الانقلاب العسكري عام 1973، وبعد العسكر بخمس سنوات جاء الشيوعيون، ثم الغزو السوفياتي لرفد حليفه، والزحف باتجاه إيران بعد سقوط الشاه. الأميركيون والمجاهدون العالميون أسقطوا النظام الأفغاني السوفياتي لكنهم فشلوا في إقامة دولة بديلة، فقد كان الاقتتال بينهم أسوأ مراحل التاريخ الأفغاني.
ما فعلته الولايات المتحدة في عقدين، حاولت تمدين أجهزة الدولة وتعميم رسائلها الخدماتية وخلق نظام سياسي برلماني يناسبها همش القوى التقليدية وزاد من الخلافات بين المكونات المختلفة. التوفيق بين الحكم الرشيد والإسلام المعتدل هو الغاية المعقولة.
هناك صراع طويل ومعقد داخل المجتمعات الإسلامية في العالم، وهذا حديث له بقية.