https://arabicpost.net/
الرئيس التونسي قيس سعيد، ورئيس البرلمان راشد الغنوشي، أرشيفية/ الأناضول
بعدما تخلَّى عن شعرة معاوية مع القوى السياسية، ما هو مستقبل البلاد بعد قرارات قيس سعيّد؟
كان خطاب الرئيس التونسي قيس سعيّد في مدينة “سيدي بوزيد”، مهد الثورة التونسية، بتاريخ 21 سبتمبر/أيلول، مغايراً وأكثر قوة من خطاباته السابقة، إذ أطلق فيه “صواريخه الدستورية” التي لطالما ما هدّد بها خصومه عندما علّق العمل بالدستور، ما عدا الفصول المتعلقة بالحقوق والحريات ليضم السلطات الثلاث؛ التنفيذية والتشريعية والقضائية، لصلاحياتها الأصلية ويقطع بالتالي شعرة معاوية مع البرلمان ورئيسه وأحزاب الأغلبية الممثلة فيه.
هذه الجرأة في الخطابة واتخاذ القرارات الفردية و”المطلقة”، بحسب مراقبين، ختمها سعيّد باللحن المكرر في غالبية خطاباته السابقة، وذلك بتوجيه سهام انتقاداته على خصومه “المتآمرين” و”المتربصين” و”الخونة” و”للغرف المظلمة” و”الأطراف الخارجية”، إلى آخره من سيل الاتهامات دون تسميتهم أو تحديدهم بشكل مباشر.
كلمة سعيّد استُقبلت بحماس كبير من أنصاره الذين حضروا لوحدهم دون سواهم لسماع خطابه على غرار ما كان يقوم به في حملته الانتخابية والتفسيرية، وتخللتها حالة اهتياج غير تقليدية في خطابات الرؤساء والمسؤولين لدرجة أنه كان من الصعوبة التركيز مع ما كان يقوله في كلمته، ما ينبئ بما جاء من بعد من قرارات خطيرة وحساسة ألغت غالبية أحكام الدستور ليتم استبدالها بآليات حكم انتقالي تمكنه من إدارة البلاد وتشريع القوانين دون رقابة ومحاسبة من أي سلطة.
وقد صدرت هذه الأحكام ضمن أمر رئاسي عدد 117 لسنة 2021 في أبواب وفصول بالجريدة الرسمية للدولة التونسية بتاريخ 22 سبتمبر/أيلول 2021 . وجاءت موزعة على 04 أبواب و23 فصلاً.
التخلي عن شعرة معاوية
حركة النهضة بقيادة رئيسها راشد الغنوشي تعتبر أهم طرف سياسي معنيّ بقرارات الرئيس قيس سعيّد بما أنها الحزب الأغلب في مجلس نواب الشعب الذي تم تجميد في 25 يوليو/تموز وتقريباً حله بالقرارات الرئاسية الأخيرة، ومعنية بإقالة حكومة رئيس الوزراء السابق هشام المشيشي الموالية لها، ومعنية أكثر بتغيير طبيعة النظام السياسي الذي يسعى سعيّد لفرضه ولا ترضى عنه حركة النهضة التي تميل أكثر للنظام البرلماني أو البرلماني المعدل.
هذه الحركة الرئاسية “الجريئة” عند البعض و”المتهورة” عند البعض الآخر، حسب التموقع السياسي لكل طرف، قطعت شعرة معاوية التي طالما مدتها حركة النهضة للرئيس سعيد إثر قراراتها الخاصة بتجميد البرلمان، إلا أنه كان دائماً يتخلى عنها إلى أن قطعها نهائياً بقراراتها الأخيرة دون رجعة، ولم يعد هنالك من مجال للمناورة معه أو إيجاد منطقة وسطى للحوار والتفاوض بعد ضمه لكل السلطات لمحفظته السياسية ووضع البرلمان في حالة انحلال، وإن لم يَصدر قرار رسمي واضح ومباشر بذلك، إلا أنه يعتبر نتيجة حتمية لمقدمتين سبقتاه؛ الأولى تجميد نشاطه وإغلاقه أمام النواب والإعلام، والثانية تتمثل في إلغاء كل الامتيازات المالية والمنح والجرايات التي يتمتع بها رئيس مجلس الشعب وباقي النواب ورفع الحصانة عنهم جميعاً.
قيس سعيّد لم يقطع شعرة معاوية مع حركة النهضة فقط، بل مع أغلبية الطبقة السياسية في تونس سواء كانوا معارضين له أو داعمين له في ما سمّوه “تصحيح المسار” الذي انطلق في 25 يوليو/تموز بتأويل شخصي للفصل 80 من الدستور التونسي، واعتبره خصومه انقلاباً على الدستور اكتملت معالمه إثر الخطاب الأخير الذي ألقاه في محافظة سيدي بوزيد.
ومن بين داعميه الذين تخلى عنهم ولم يعد يسمع لمشورتهم ولم يشركهم في مشروعه السياسي نجد الناشط السياسي والأمين العام السابق لحزب التيار الديمقراطي الذي كان داعماً قوياً للرئيس سعيّد واقترح عليه سيناريو مشابهاً للسيناريو الحالي.
يقول عبو في رد فعل على تجاهل الرئيس له: “تم الاستنجاد برئيس حوله كثير من نقاط الاستفهام لضرورة وضع حد لفساد سياسي أغلق كل أبواب التقدم أمام تونس (…) فقام هذا الشخص بدل ضرب منظومة الفساد التي عجز أمامها لأسباب قد نكتشفها يوماً باستغلال هذه الحاجة المُلحَّة (الحاجة لمحاربة الفساد) بأقبح أشكال الانتهازية، معلناً سيطرته على الدولة لخدمة مشروع تافه موجه لجزء من التونسيين القابلين للاستغباء”.
ولم يكتفِ عبو بذلك، بل أشار بوضوح لانحراف الرئيس سعيّد عن مبادئ الدستور الديمقراطية التي تحكم بالبلاد عندما توجه بالخطاب إلى أنصار الرئيس، عبر تدوينة على فيسبوك، بالقول: “سيكتشفون حال تردي أوضاع البلاد أنهم كانوا ضحايا وأنهم السبب في تجرؤ قيس سعيّد على دستور البلاد وديمقراطيتها الوليدة التي كانت تحتاج إلى تخليصها من الفساد لا إلى توجيهها نحو مشروع غامض لشخص غامض لا مشروع له إلا البحث عن شعبية عبر بث الوهم”.
هذا الموقف تقاطع فيه معه حزب التيار الوطني الديمقراطي الذي كان من بين أهم الأحزاب المساندة لقرارات سعيّد، إلا أنه تراجع عن دعمه له بعد ما اعتبره استفراداً من الرئيس بقرارات مصيرية في تاريخ البلاد، رافضاً “استغلال رئيس الجمهورية للإجراءات الاستثنائية لمغالطة التونسيات والتونسيين وفرض خياراته السياسية الفردية كأمر واقع، وذلك على حساب الأولويات الحقيقية وعلى رأسها مقاومة الفساد ومجابهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والمالية والصحية…”.
بنود قرارات قيس سعيّد
تقوم قرارات الرئيس التونسي قيس سعيّد المثيرة للجدل على التالي:
– مواصلة تعليق جميع اختصاصات مجلس نواب الشعب، ومواصلة رفع الحصانة البرلمانية عن جميع أعضائه، ووضع حد لكافة المنح والامتيازات المسندة لرئيس مجلس نواب الشعب وأعضائه.
– تدابير خاصة بممارسة السلطة التشريعية تخول لرئيس الدولة إصدار تشريعات في شكل مراسيم غير قابلة للنقض.
– التدابير الخاصة بممارسة السلطة التنفيذية تسمح للرئيس بجمع صلاحيات رئيس الدولة ورئيس الحكومة وتجميع كامل السلطة الترتيبية بين يديه.
– إلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين والتي وضعت لمراقبة تشريعات البرلمان بدل المحكمة الدستورية التي لم يتم إرساؤها منذ سنة 2014.
– مواصلة العمل بتوطئة الدستور وبالبيانين الأول والثاني المتعلقة بالحريات وحقوق الانسان وبجميع الأحكام الدستورية التي لا تتعارض مع التدابير الاستثنائية التي اتخذها.
– تولي رئيس الجمهورية إعداد مشاريع التعديلات الدستورية لتغيير النظام السياسي وتعديل القوانين الانتخابية بالاستعانة بلجنة من الخبراء الدستوريين يتم تنظيمها بأمر رئاسي.
لا مكان لمنطقة رمادية
موقف الرئيس قيس سعيّد السلبي من الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وقراره باستبعادهم من أي مرحلة انتقالية أو تأسيسية ليس جديداً. إذا لم يضع فرصة إلا وهاجم الطبقة السياسية التي دائماً ما يصفها بالانتهازية والخذلان، وقد ظهر موقفه المعادي للمنظومة الحزبية والسياسية في البلاد خلال اجتماعه الأخير وحتى الأحزاب والمنظمات الداعمة مما فاقم حالة التململ ودفعهم لاتخاذ مواقف واضحة من قرارته الأخيرة، (ما عدا حركة الشعب ومنظمة أنا يقظ) معتبرين أن ما قام به قيس سعيّد انقلاب على الدستور والديمقراطية مكتمل الأركان.
لتتوضح بالتالي الرؤية بين مواقف أنصار الرئيس أو حزبه غير المعلن الذين يعتبرون أن ما قام به سعيّد منذ 25 يوليو لليوم هو “تصحيح مسار” و”استجابة للمطالب الشعبية” بالتغيير السياسي وبين من يرى في القرار الرئاسي الأخير الذي نشر في الجريدة الرسمية للدولة التونسية بتاريخ 22 سبتمبر/أيلول “انقلاباً” واضحاً وصريحاً على الدستور والديمقراطية.
وتجدر الإشارة إلى أن سعيّد صرح مرارًا وتكرارًا قبل وأثناء حملته الانتخابية لعام 2019 بأن جميع الكيانات التي تربط بين الشعب والدولة -أي الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية وحتى الهيئات العامة والدستورية المستقلة- تديم الفساد وتزور إرادة الشعب.
ويقول رامي الصالحي، رئيس مكتب المغرب العربي للشبكة الأورو-متوسطية لحقوق الإنسان، إن سعيّد لا يؤمن بأهمية المجتمع المدني والسياسي وسيسعى لتقليص دورهم وتأثيرهم. “ويتجاهل سعيد الدور المحوري الذي تلعبه المنظمات الوطنية في إنقاذ البلاد فعليًا، كما حدث في عام 2013، بعد اغتيال الزعيمين السياسيين شكري بلعيد ومحمد براهمي. حيث كان يمكن للبلاد أن تدخل مرحلة من الفوضى الشاملة بدون قيادة أربع منظمات مجتمع مدني كبرى، وهي: الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، وعمادة المحامين التونسيين، ورابطة حقوق الإنسان، التي قادت تونس من خلال حوار وطني شامل وصعب، تُوّج بإيجاد خارطة طريق سياسية التزمت بها جميع الأطراف. وحصل الرباعي الراعي للحوار إثرها على جائزة نوبل للسلام عام 2015 في حدث استثنائي”.
بين الانقلاب وتصحيح المسار
تجميع قيس سعيّد للسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بين يديه وإلغائه للهيئات الدستورية (هيئة مكافحة الفساد، الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين..) وتكليف نفسه بصياغة دستور جديد للبلاد، كل تلك عوامل جعلت الاستقطاب يشتد بين من يدعم الرئيس في قرارته ومن يعارضه. كما أن الفرز السياسي أصبح واضحاً الآن بعد انقشاع الضبابية التي كانت تخيم على مواقف بعض الأطراف والشخصيات الفاعلة من برنامج سعيّد السياسي. وتحول تاريخ خطابه 21 سبتمبر/أيلول 2021 لمسبار سياسي توضحت فيه بشكل أساسي المواقف المساندة والمواقف المناوئة للرئيس، ولم يعد التردد والارتباك يحكم على مواقف فئة من التونسيين.
في هذا السياق، يقول غازي الشواشي النائب في البرلمان عن الكتلة الديمقراطية، في تدوينة على موقع فيسبوك إن “من ينقلب على دستور البلاد يفقد شرعيته وتستوجب مقاومته”. هذا الموقف لأحد داعمي قرارات 25 يوليو لم يكن استثناء. فالعديد من المواقف لأحزاب وشخصيات سياسية اجتمعت حول تجريم قرارات الرئيس قيس سعيّد الأخيرة واعتبرتها انقلاباً على الدستور والشرعية نجد من بينهم حزب التكتل الديمقراطي الذي يرأسه مصطفى بن جعفر والحزب الجمهوري وحزب آفاق تونس.
من جانبه، يرى فوزي عبد الرحمان، وزير التشغيل الأسبق في حكومة يوسف الشاهد، والذي لم يكن معترضاً على قرارات الرئيس في 25 يوليو، في تشخيصه للوضع السياسي الحالي أن “هذا النظام يسمى في القاموس السياسي: نظام حكم فردي واستبدادي وهو يشرع للاعتباطية السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولا يبشر إلا بالظلم والقهر والاحتراب بين أفراد الشعب الواحد”.
ويقول أيضاً تعليقاً على المشروع السياسي للرئيس: “نحن على أبواب خطر داهم (…) وهو الإفلاس المالي والاقتصادي وخطر داهم أكبر وهو الإفلاس الحضاري، والذي خطونا خطوات جدية باتجاهه”.
اللافت في هذا الإطار أن حركة النهضة التي كانت تسعى للحفاظ على شعرة معاوية مع الرئيس وتستعمل لغة دبلوماسية لينة في بياناتها مستبعدة مصطلح “انقلاب” من أغلبية بيانتها بعد 25 يوليو أصدرت مؤخراً بياناً صعدت فيه اللهجة ضد الرئيس قيس سعيّد بشكل غير مسبوق، حيث اعتبرت أن القرار الرئاسي الذي صدر بالرائد الرسمي بتاريخ 22 سبتمبر/أيلول “تعليقاً فعلياً لدستور الجمهورية وتعويضاً له بتنظيم مؤقت للسلطات ونزوعاً واضحاً نحو حكم استبدادي مطلق وانقلاباً سافراً على الشرعية الديمقراطية وعلى مبادئ الثورة التونسية وقيمها”.
بالمقابل، يسعى أنصار الرئيس وداعموه من داخل النخبة السياسية والخبراء الدستوريين إلى طمأنة الرأي العام حول مصير البلاد بعد إجراءات الرئيس، وبأنها لا تمس منظومة حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية التي جاءت بها “ثورة 17 ديسمبر/كانون الأول” كما يحلو للرئيس تأريخها.
يقول أمين محفوظ، أستاذ القانون الدستوري بالجامعة التونسية، وأحد المرشحين للجنة التي ستساعد الرئيس في صياغة التعديل الدستوري الجديد، في تعليقه على المخاوف من الانقلاب على حقوق الإنسان: “لا خوف على الحقوق، وخاصة منها حقوق المرأة، والحريات”. ويضيف في تصريح لإذاعة محلية: “يجب أن تهدف مشاريع هذه التعديلات (الدستورية) إلى التأسيس لنظام ديمقراطي حقيقي يكون فيه الشعب بالفعل هو صاحب السيادة ومصدر السلطات ويمارسها بواسطة نواب منتخبين أو عبر الاستفتاء، ويقوم على أساس الفصل بين السلط والتوازن الفعلي بينها، ويكرس دولة القانون، ويضمن الحقوق والحريات العامة والفردية وتحقيق أهداف ثورة 17 ديسمبر 2010 في الشغل والحرية والكرامة الوطنية، ويعرضها رئيس الجمهورية على الاستفتاء للمصادقة عليها”، على حد تعبيره.
وجهة الرئيس الأخيرة
بعد خارطة الطريق الأخيرة التي أطلقها الرئيس قيس سعيّد في محافظة سيدي بوزيد، ووثقها في أبواب وفصول في جريدة الرائد الرسمي، لم يعد من مجال للشك أن الرئيس متجه بشكل ثابت وواثق نحو تأسيس الجمهورية الثالثة، ليسير على خُطى الجنرال الفرنسي الشهير شارل ديغول الذي نجح سنة 1958 في القيام باستفتاء على تعديل الدستور وتغيير النظام السياسي لنظام شبه رئاسي مدشناً بذلك عهد الجمهورية الفرنسية الخامسة.
لكن الفرق بين التعديلين والجمهوريتين: جمهورية سعيّد المنتظرة وجمهورية ديغول الخامسة (تأسست منذ 63 عاماً)، هو أن رؤية سعيّد للنظام الرئاسي تقوم على احتكار أهم وأغلب الصلاحيات التنفيذية للحكم بما فيها صلاحيات رئيس الحكومة ليصبح في موقع الوزير الأول المنفذ لتوجيهات الرئيس، مثلما جاء في الفصلين 18 و19 من التدابير الاستثنائية المضمنة في الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021، في حين أن الجمهورية الخامسة التي أسسها الجنرال ديغول تقوم على نظام شبه رئاسي متناصف يحتفظ فيه رئيس الدولة بحقيبة الدبلوماسية والدفاع والأمن القومي، ويتقاسم الصلاحيات التنفيذية مع رئيس الحكومة التي يمارسها هذا الأخير بشكل مستقل عن إرادة الرئيس، خصوصاً إذا كان رئيس الحكومة لا ينتمي للعائلة السياسية للرئيس.
من المنتظر أن يطرح سعيّد تصوره للجمهورية الثالثة على الاستفتاء الشعبي حسب أحكام الفصل الثالث من دستور سنة 2014 الذي يقول إن “الشعب هو صاحب السيادة ومصدر السلطات يمارسها بواسطة ممثليه المنتخبين (النواب) أو عبر الاستفتاء”، ليسقط بذلك الفرضية الثانية لتعديل الدستور حسب الفصلين 143 و144 التي تقول بأن كل مبادرة لتعديل يقترحها رئيس الدولة تعرض على المحكمة الدستورية ومجلس نواب الشعب للمصادقة عليها قبل أن تصبح سارية المفعول، وهو الخيار الذي تلتف حوله أغلبية الطبقة السياسية من معارضي الرئيس.
وأمام هذا الجدل الفكري والسياسي الذي يرافق مسار تغيير الدستور وغموض برنامج سعيد السياسي والتنموي ما بعد تثبيت جمهوريته الثالثة، إذا ما نجح الاستفتاء الشعبي، تبدو المقاربة الأيديولوجية “الشعبوية”، بحسب خصوم الرئيس، فضاء للإصلاح السياسي والتبشير بنموذج تنموي جديد، في أعين مريديه.
في هذا الاطار، يقول القيادي بحركة الشعب عبد الرزاق عويدات في تصريح للجزيرة: “نحن الآن في مسار سياسي جديد سيتم بموجبه مراجعة منوال تنموي قائم منذ 1986، ويمهد الطريق نحو جمهورية ثالثة بنظام سياسي وانتخابي جديد، ومنوال اقتصادي واجتماعي مختلف عن سابقيه يلبي طموح الشعب”.
السيناريوهات المتوقعة
العديد من السيناريوهات المحتملة للأزمة السياسية وارد حدوثها في المرحلة القادمة من تاريخ البلاد بناء على التطورات الأخيرة التي لمسناها في النقاش العام حول قرارات الرئيس الأخيرة والشارع السياسي المتغير بحسب مدى تقدم الرئيس في برنامجه بتعديل أو إلغاء الدستور والولوج للجمهورية الثالثة.
السيناريو الأول: يواصل الرئيس قيس سعيّد في تنفيذ خارطة الطريق التي رسمها لنفسه من خلال تعيين رئيس حكومة ووزراء وكتاب دولة، والذهاب نحو استفتاء على الدستور بالموازاة مع حراك الشارع السياسي، ولجوء خصوم الرئيس من أحزاب برلمانية ومنظمات مجتمع مدني وشخصيات حقوقية وسياسية للتظاهر في الشارع تنديداً بالانقلاب الدستوري”، ومواصلتهم حشد الرأي العام الداخلي والمجتمع الدولي للوقوف إلى جانبهم والضغط على سعيّد من أجل التراجع والحوار.
السيناريو الثاني: تطور الصراع والمشاحنات بين أنصار الرئيس وخصومه من خلال تكثيف المظاهرات والاعتصامات والمظاهرات المضادة، وتطور التحركات الاحتجاجية السلمية إلى مواجهات عنيفة في الشارع بين أنصار الطرفين المتنازعين، وسقوط البلاد في الفوضى، مما يتطلب تدخل الجيش وعسكرة الفضاء العام واللجوء للأحكام العرفية، وما يعنيه ذلك تولّي المؤسسة العسكرية لمقاليد الحكم وتعليق الديمقراطية والحريات وإغلاق قوس الثورة.
السيناريو الثالث: أن يقبل قيس سعيّد بمقترحات حركة النهضة وحلفائها بفتح الأبواب لحوار وطني حول الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد، يلعب فيه الاتحاد العام التونسي للشغل دوراً مهماً كوسيط لإدارة الحوار بين الطرفين مثلما حصل في سنة 2013.
ويتم من خلال ذلك تحديد الأولويات المطروحة لإنقاذ الوضع الاقتصادي والاجتماعي من الانهيار وعودة مجلس الشعب لسالف النشاط، ومناقشة نواب البرلمان لمقترحات الرئيس بتعديل الدستور والقانون الانتخابي، والاتفاق حول إرساء المحكمة الدستورية في أقرب الآجال للنظر في مقترحات الرئيس بتغيير النظام السياسي وتجاوز الأزمة بأقل الأضرار.
“الشعب يريد عزل الرئيس”.. هل يواجه قيس سعيّد مصير “بن علي” في تونس؟
خرج الآلاف إلى شارع الحبيب بورقيبة رافعين شعار “ارحل” في وجه الرئيس قيس سعيّد بعد إصرار الأخير على احتكار السلطة في تونس، فإلى أين تتجه الأمور في مهد ثورات الربيع العربي؟
كان الرئيس التونسي قيس سعيّد قد قرر فجأة يوم 25 يوليو/تموز الماضي إقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي، متولياً بنفسه السلطة التنفيذية بمعاونة حكومة قال إنه سيعين رئيسها، كما قرر تجميد اختصاصات البرلمان لمدة 30 يوماً، ورفع الحصانة عن النواب، وقرر ترؤس النيابة العامة، ولاحقاً أصدر أوامر بإقالة مسؤولين وتعيين آخرين.
وفي ذلك الوقت، كانت الأوضاع في تونس قد أصابت غالبية التونسيين بخيبة أمل واضحة في الأحزاب السياسية والبرلمان، في ظل حالة من الانسداد والمناكفة السياسية، على خلفية عدم تمتع أي من الأحزاب بأغلبية في البرلمان، وانعكاس ذلك على الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي باتت في حالة جمود يدفع ثمنه التونسيون أنفسهم.
وجاءت جائحة كورونا وارتفاع وطأتها في البلاد بصورة أدت إلى انهيار القطاع الصحي لتدفع الأمور إلى حافة الهاوية، وخرجت تظاهرات تطالب الرئيس بالتدخل، واستغل سعيّد الفرصة، على خلفية تقارير تفيد باستعداده لذلك والتنسيق مع دول أخرى بالفعل، وأعلن إجراءاته الاستثنائية التي عارضتها الأحزاب الكبيرة في البرلمان، خصوصاً حركة النهضة وحزب قلب تونس، بينما أيدتها أحزاب أخرى وبدا أن هناك تأييداً شعبياً لإجراءات سعيّد.
تحركات ضد انفراد سعيّد بالسلطة
ومن المهم هنا التوقف عند التسلسل الزمني للأوضاع في تونس خلال الشهرين الماضيين، أي منذ مفاجأة سعيّد التي استند فيها على المادة 80 من الدستور التونسي. فعلى الرغم من تأكيدات سعيد المتكررة أنه لا يخالف الدستور وأنه سيقوم بتعيين حكومة وأن تجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النواب مدته 30 يوماً فقط، فإنه أصدر قراراً بتمديد عمل البرلمان “لأجل غير مسمى”، مع مرور الشهر الأول على قراراته، ولم يعين حكومة، وواصل انفراده بالسلطة في البلاد.
ومنذ اللحظة الأولى لقرارات الرئيس التونسي، كان واضحاً أن هناك قلقاً دولياً على المسار الديمقراطي في البلاد، ونشرت صحيفة Washington Post الأمريكية تقريراً بعنوان “ديمقراطية تونس الهشة، الناجي الوحيد من الربيع العربي، في أزمة بعد أن انفرد الرئيس بالسلطة”، بينما عنونت شبكة CNN تغطيتها لأحداث تونس قائلة “ديمقراطية تونس في أزمة بعد أن أطاح الرئيس بالحكومة”، ولم تختلف تغطية The New York Times عن نفس الخط، وجاء عنوان تغطيتها “ديمقراطية تونس على شفا الانهيار بعد تحرك الرئيس للانفراد بالسلطة”.
ومع مرور الوقت، بدأ التململ والقلق يتسرب إلى الأطراف التي ساندت الرئيس وبدأت تتعالى الأصوات المطالبة بضرورة الكشف عن خارطة الطريق التي ينوي الرئيس اتباعها للخروج من الأزمة التي تعصف بالبلاد.
بل إن الرئيس سخر من الدعوات المتزايدة لعقد حوار وطني بين جميع الأطراف للتوافق على مخرج مناسب قبل أن تصل الأمور إلى نقطة اللاعودة في البلد الذي منه انطلقت شرارة ثورات الربيع العربي قبل أكثر من عقد الزمان وأطاح بزين العابدين بن علي الرئيس الأسبق الذي حكم البلاد بطريقة ديكتاتورية لمدة ثلاثة عقود.
ويعتبر موقف عبير موسى رئيسة الحزب الدستوري الحر من إجراءات سعيّد نموذجاً لما تشهده تونس منذ اتخاذ سعيّد إجراءاته الاستثنائية، فقد كانت موسى أول المهلّلين لقرارات الرئيس تجميد البرلمان وإقالة الحكومة والانفراد بالسلطة، لكن سرعان ما انقلب التهليل إلى رفض لقرارات الرئيس وبخاصة تجميد البرلمان.
لكن إذا كان موقف موسى، بحسب محللين، مرتبطاً بالطبيعة الشعبوية التي تتشاركها مع الرئيس قيس سعيّد وليس نابعاً من قلق حقيقي من تحول سعيّد إلى “بن علي” جديد، على أساس أن موسى من المدافعين عن النظام السابق من الأصل، فموقف أحزاب أخرى ومؤسسات مثل اتحاد الشغل يعتبر مؤشرات كان على الرئيس أن يلتفت إليها لكنه لم يفعل.
فقبل أن تحل الذكرى الشهرية الثانية لقرارات سعيّد الاستثنائية، بدأ مؤيدو الرئيس يعبرون عن “امتعاضهم” بسبب ضبابية المشهد السياسي وعدم تعيين حكومة جديدة، في ظل الأوضاع الصعبة التي تعيشها البلاد.
وبعد أن قرر سعيّد تمديد تجميد عمل البرلمان لأجل غير مسمى، وسط مؤشرات نحو اتجاه الرئيس إلى تعديل الدستور، وهو ما لمح إليه سعيّد نفسه، وأثار انتقادات ورفضاً من جانب بعض من أيدوا قرارات الرئيس الاستثنائية، ها هو الرئيس التونسي يواجه غضب الشارع نفسه.
فبينما رفضت غالبية الأحزاب التّونسية قرارات سعيّد الاستثنائية، واعتبرها البعض “انقلاباً على الدستور”، كانت أحزاب أخرى قد أيدتها ورأت فيها “تصحيحاً للمسار”، في ظل أزمات سياسية واقتصادية وصحية (جائحة كورونا).
لكن مع مرور الوقت دون أن تتضح الصورة بشأن ما هو قادم، في ظل عدم تعيين حكومة أو إعلان خارطة طريق من جانب الرئيس، بدأت بعض الأطراف المؤيدة لسعيّد في المطالبة بالتسريع في الإعلان عن الحكومة، معربةً عن رفضها تجميع السلطات والانفراد بالحكم.
واعتبر المحلل السياسي التونسي محمد بريّك أن “هناك اليوم قلقاً لدى الشارع التونسي والمؤيدين للرئيس سعيّد، مردّه ضبابية الوضع وعدم وضوح الرؤية، إلا أنّ الأخير كان حريصاً جداً على التأكيد على تطبيق القانون في كل إجراء يتخذه، ولم يُرد أخذ إجراءات أكثر صرامة”.
وفي حديثه للأناضول، شدد على أن “هناك أطرافاً أخرى من اليسار ليست مساندة لإجراءات سعيّد، وإنما تدفع نحو إجراءات أكثر صرامة من إيقافات وإقالات وتجميد منظمات وأحزاب، إلا أنه لا يزال مشدداً على أن كل إجراء يجب أن يخضع للقانون”.
“الشعب يريد عزل الرئيس”
واليوم الأحد 26 سبتمبر/أيلول، مع بدء الشهر الثالث منذ اتخذ سعيّد إجراءاته، شهد شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة التونسية مظاهرة حاشدة للاحتجاج على استئثار الرئيس قيس سعيد بسلطات الحكم وطالبوه بالتنحي عن منصبه.
ونقلت كثير من القنوات العربية والتونسية مشاهد مباشرة للمتظاهرين الذين بدأوا التجمع منذ الصباح الباكر، وسط تكثيف أمني واضح، وانطلقت المظاهرات قبل ساعتين من موعدها المقرر منتصف النهار بناء على دعوات انطلقت على منصات التواصل الاجتماعي، وليست عبر أي من الأحزاب.
وفي الصباح، قال شاهد من رويترز إن نحو 2000 محتج تجمعوا في العاصمة التونسية مطالبين الرئيس بالتنحي، قبل أن تزداد أعداد المتظاهرين بشكل لافت مع مرور الوقت وارتفع شعار “الشعب يريد عزل الرئيس” مدوياً بصورة واضحة.
التحرك الشعبي الأبرز جاء في أعقاب تجاهل سعيّد جانباً كبيراً من أحكام الدستور الصادر في 2014 ومنح نفسه سلطة الحكم بمراسيم، أي إصدار تشريعات وقوانين، ليطبق على السلطة بشكل مطلق، فهو يتولى مهام السلطة التنفيذية والقضائية والتشريعية أيضاً.
وبحسب رويترز، ردد المحتجون شعارات تطالب بإسقاط الانقلاب في شارع الحبيب بورقيبة الذي كان محوراً للمظاهرات التي أنهت حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي في 14 يناير/كانون الثاني 2011. كما ردد المتظاهرون هتافات “ارحل” و”بالروح بالدم نفديك يا دستور” و”يا قيس يا غدار”.
وتهدد هذه الأزمة ما حققه التونسيون من مكاسب ديمقراطية في ثورة 2011 التي أطلقت شرارة احتجاجات “الربيع العربي” وأبطأت أيضاً الجهود المبذولة لمعالجة تهديد عاجل للمالية العامة، مما أثار قلق المستثمرين.
وقال عبد الفتاح سيف، الذي يعمل مدرساً، لرويترز: “إنه ديكتاتور. خان الثورة وخان الديمقراطية. لقد جمع كل السلطات. إنه انقلاب ونحن سوف نسقط الانقلاب في الشوارع”.
وكان الرئيس سعيّد قد قال إن الخطوات التي اتخذها ضرورية للخروج من حالة الشلل السياسي والركود الاقتصادي ومعالجة ضعف إجراءات مكافحة جائحة كورونا. ووعد سعيّد بنصرة الحقوق وعدم التحول إلى حاكم مستبد.
الجميع انفضوا من حول الرئيس
هذا التطور في الشارع، والذي رفع شعار “ارحل” في وجه الرئيس، يعتبر تطوراً طبيعياً للأحداث على الأرض، فقد أعلن الاتحاد التونسي للشغل يوم الجمعة 24 سبتمبر/أيلول رفضه العناصر الرئيسية في قرارات الرئيس وحذر من مخاطر حصر السلطات في يده، تزامناً مع اتساع نطاق المعارضة للقرارات التي يصفها خصومه بأنها انقلاب.
وفي الأسبوع الماضي خرج أول احتجاج على قرارات الرئيس منذ أصدرها في 25 يوليو/تموز. ووصف أكبر الأحزاب السياسية وهو حزب النهضة الإسلامي المعتدل الخطوات التي أخذها سعيّد بأنها “انقلاب على الشرعية الديمقراطية” ودعا الناس إلى توحيد الصفوف والدفاع عن الديمقراطية بالوسائل السلمية. وأصدرت أربعة أحزاب أخرى بياناً مشتركاً يدين سعيّد يوم الأربعاء وندد به حزب كبير آخر هو حزب قلب تونس.
والسبت أدانت منظمات تونسية ودولية “القرارات التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد بصفة أحادية واستحواذه على السلطة في ظل غياب أي شكل من أشكال الضمانات”. وجاء ذلك في بيان مشترك وقّعته 18 منظمة محلية ودولية، اطلعت عليه الأناضول.
ومن المنظمات الموقعة على البيان، المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب، والرابطة التونسية للمواطنة، و”هيومن رايتس ووتش”، ومنظمة العفو الدولية فرع تونس، والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، ومحامون بلا حدود، والشبكة التونسية للعدالة الانتقالية، وجميعها مستقلة.
وأكدت المنظمات، في بيانها، “تمسكها الثابت بالمبادئ الديمقراطية”. واعتبرت أن “صدور الأمر الرئاسي الأخير من قبل سعيّد يقضي بإلغاء النظام الدستوري، ويعد أولى الخطوات نحو الاستبداد”، معبرة عن “خشيتها من المس من حقوق الإنسان نتيجة الاستيلاء غير المحدود على السلطات”.
وقالت المنظمات إن “القانون الدولي لحقوق الإنسان يسمح في ظل شروط صارمة بتبني صلاحيات استثنائية، لكن تظل هذه الاستثناءات مؤقتة وخاضعة بشكل صارم لمبادئ الشرعية والضرورة والتناسب ويشترط وجود رقابة قضائية صارمة”.
وأضافت أن “القانون الدولي ينص على إلزامية التعامل مع حالات الطوارئ في إطار سيادة القانون، ولذلك يتعين إحداث أي تغيير في النظامين السياسي والدستوري ضمن الإطار المنصوص عليه في الدستور، والذي يوفر شروط تعديله، مع الامتثال لمقتضيات المسار الديمقراطي”.
الخلاصة هنا أن تحرك الشارع ضد الرئيس التونسي والمطالبة بعزله يفتح الباب على مصراعيه للتكهنات بشأن مستقبل البلاد، ويطرح تساؤلات بشأن ما إذا كان الرئيس سيتراجع عن احتكاره للسلطة ويستجيب لمطالب إجراء حوار وطني والذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة في ظل الدستور الحالي، أم أنه سيواصل مسيرته التي قال إنها بهدف إخراج البلاد من الطريق المسدود فإذا به يضع مستقبل البلاد على المحك؟