كان الخميس الدامي الذي شاهدنا وقائعه على الهواء مباشرةً ليفضي إلى موت جماعي لطالما كابد اللبنانيون مثله، لكن مآلاته المفترضة، والبناء على دمويته، هما ما سيجعلانه يوماً لا يستوي مع أيام القتل العادي، وهو بالمناسبة صار، أو سيصير في يومياتنا، موازياً لمقتلة يوم المرفأ، بمعزل عن فارق عدد الضحايا الذي صنعته المقتلتين.
والعودة إلى السبب الذي لأجله خرجت تظاهرة يوم الخميس الدامي، والتي دعا إليها الثنائي الشيعي، ستفضي على الأرجح إلى الغاية التي أرادها المنظمون، والتي وفر ضحاياها المآل المرتجى من أسبابها.
كفّ يد، أو إقالة، أو “قبع” القاضي طارق بيطار لم تعد مسميات ذات أهمية، فما فرضته وقائع يوم الخميس تجاوز كل تلك المسميات، ووفر للمُدَّعى عليهم شخصياً حصانات لم تعد تقيم في السياسة، بل تستمدها من الدم الذي سال اليوم، وسيوفر للثنائي الشيعي تحديداً مقايضة الدم بالدم، وهي مقايضة ستنسحب بالتالي على مُدَّعى عليهم آخرين.
هي إذاً مقايضة الرابع من آب/ أغسطس بالرابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر، وهو ثمن إذا ما افترضنا حسن النيات، لم يكن ليتمناه من دعا إلى تظاهرة اليوم، فيما المرء سيكابد بين حسن النيات وسوئها وهو يتقصى وجوه من جعل من الدم الوسيلة الأكثر قابلية للصرف حيث استعصى القضاء والسياسة.
يوم الطيونة الدموي، وشى أيضاً بأن كثيرين ممن شكلت جريمة المرفأ قضيتهم، بدوا، وهم ينتشون اليوم بمشاهد القتل، أسرى لثارات شخصية أو حزبية أكثر من وقوعهم أسرى لوجدان جماعي تشكل بعد جريمة مرفأ بيروت، وبافتراض أن الأخيرة هي غايتهم، فإنهم بدوا قاصرين عن استشراف تبعات حدث اليوم الذي ستُطوى معه حقائق كثيرة.
إذاً، ما كان استعصاءً في القضاء والسياسة، صار ممكناً بالدم، وهو استعصاء كانت لتتدرج فصوله بين مقاطعة وزراء “حزب الله” و”حركة أمل” لحكومة ميقاتي، أو استقالتهم منها. وفي الحالتين كان مصير الحكومة مرهوناً بكف يد المحقق العدلي طارق بيطار عن قضية المرفأ، كمطلب لا رجوع عنه من الثنائي، لكن دم ضحايا يوم الخميس سيكون على الأرجح دماً جديداً ينقذ حكومة نجيب ميقاتي من السقوط، ويوفر لأطرافها مجتمعة فرصة الخروج من الأزمة القضائية والسياسية التي كادت تعصف بها.
عموماً، المقايضة بين المقتلتين إذا تمت، وهو المرجَّح، ستكون بالضرورة مقايضة بين أطراف السلطة، في حين أن أولياء الدم، وفي الحالتين، سيكونون خارجها، بل إن التسوية المفترضة لن تكون إلا على حسابهم، فيما سترسم إقالة القاضي بيطار حدوداً لمآل حقيقة مبتسرة، سيكون على المحقق الذي سيليه عدم تجاوزها.
والحال، فإن دماء يوم الرابع عشر من تشرين الأول، كانت دماء بمنازل كثيرة، وسنكتشف قريباً أن الاستثمار فيها ليس مجرد نهج سلطوي لإخراج الحقيقة عن مسارها من الأطراف التي ناصبت بيطار العداء، أو توفر للعونيين تخففاً من وطأة الخضوع السياسي في بيئة تنافُس استثماري تشكل القوات اللبنانية ثاني أثافيه، ثم تُجنِّب نجيب ميقاتي سقوطاً سريعاً لحكومته لم يكن ليغبطه عليه سوى الراحلين أمين الحافظ ونورالدين الرفاعي. لكن دماء اليوم كشفت أيضاً عن مستثمرين كثر تحكَّم بهم الثأر الشخصي عن التبصر في المردود السلبي للقتل الذي استنكروه في جريمة 4 آب. وأغلب الظن، أن أهل الضحايا هم وحدهم من سينتظرون جثث أعدائهم، لكن على شاطئ البحر هذه المرة.
إقرأوا أيضاً: