جورج قرداحي لم يكن يعلم ماذا ينتظره في “برلمان شعب”. لو كان يعلم لما شارك. على الأرجح أنه ظن البرنامج، القائم على ناشطات ونشطاء من دول عربية مختلفة بصفة برلمانيين شباب، هو برنامج ترفيهي آخر، يتعرض الإعلامي الشهير خلاله لتلميحات سمجة اعتادها حول “من سيربح المليون”، ثم يتلقى موجات مديح يبتسم لها بعذوبة وتواضع، وحين يُسأل، يجيب بترهاته المعهودة مغلفاً إياها بصوته الإذاعي وتهذيبه الفائق، وينتظر أن يسعف الشكل الجميل المضمون الخاوي.
لكن لا شيء أسعفه في “الاستجواب” الذي سرعان ما تحول، مع أول سؤال طرحته المغربية وصال إدبلا، إلى ما يشبه المحاكمة القاسية، ولكن العادلة، لإعلامي ترفيهي قرر قبل فترة أن يحكي بكل ثقة، في السياسة. وفي وقت قياسي فقد قرداحي ثقته بنفسه وهو يكتشف أنه أمام أسئلة حقيقية.
الساعة الطويلة التي خضع فيها جورج قرداحي للاستجواب كانت مثيرة للشفقة عليه، وهو يتخبط بين هذه المجموعة من اليافعين المتحفزين ذهنياً لكل كلمة ينطق بها. وبينما ملامح وجهه تتنقل من مرتاحة إلى عصبية إلى تائهة إلى يائسة، كان قرداحي كلما نطق غرق أكثر في الرمال المتحركة.
الأشياء التي يطلقها قرداحي على عواهنها وهو يسهر مع أصدقائه على شرفة بيته، بدا أنها لا تصح هنا. فهم قرداحي، وبأسوأ طريقة ممكنة، أنه لا يستطيع أن يطل على شاشة ليعلن أحكامه القاطعة بناء على انطباعاته الشخصية. فهم أيضاً أن الهراء الأبوي لا ينطلي على أجيال ترفض، أول ما ترفض، الأب والقائد معاً. بدا قرداحي، في مواجهة وصال ورفاقها، عتيقاً وصدئاً ومن زمن آخر. يحاجج في دفاعه المستميت عن بشار الأسد بأنه فاز بـ94 في المئة في الانتخابات الأخيرة، وأن الدولة انتصرت بينما هزم النظام (ما معنى هذه العبارة؟)، وأنه شاهد السوريين على التلفزيون “يزحفون” (استخدم المصطلح المقزز مرتين) لانتخاب الأسد. وطبعاً، فهو غير مقتنع شخصياً بأن النظام السوري استخدم الأسلحة الكيماوية.
أما مصر، فقد صارت أفضل بأشواط مما كانت عليه في السابق، لأنه يذهب مرتين إلى مصر في الشهر و”يحكم على ما يرى”، وما يراه قرداحي هو جسور جديدة وبنية تحتية. أكثر من ذلك، فقد حضر مؤتمراً وعرضت أمامه مشاريع رائعة لمصر. وسكان العشوائيات ينتقلون إلى أبنية حديثة فيها مياه ومراحيض. حين سئل عن رقم واحد يمكنه أن يؤكد من خلاله ازدهار مصر قال أنه ليس “شاطراً” في الحساب، لكنه استخدم الأرقام ليقول إن ثلاثين مليون مصري شاركوا في “ثورة” 30 يوليو.
لا بأس بخمسة وستين ألف معتقل. لا بأس بثلاثة آلاف ضحية في رابعة. لا بأس بملايين النازحين السوريين. هذه أرقام لا تعني قرداحي، فهو ليس “شاطراً” في الحساب. وليس مهتماً بالشعوب، أو أنه يراها أقل شأناً من أن تطالب بالحرية، بالديموقراطية، أقل شأناً من أن تثور. ليس لديها الإدراك الكافي، كما في حالة 17 تشرين اللبنانية لأن تقوم بثورة، لأن الثورة تحتاج إلى برنامج. ولقرداحي بديل جاهز لحل المشكلة اللبنانية يتمثل بخطة خماسية خلابة تتمثل في انقلاب عسكري يعيد فيها العسكر النظام إلى البلد…
لم يخذل قرداحي سياق تدهوره العام ولو لمرة في الحلقة. لم يقل جملة ذكية واحدة ولم ينقطع لحظة عن إحراج نفسه. أخطأ، جذرياً، في كل إجاباته على أسئلة هذه المجموعة المتنوعة عربياً والتي تجيد التعبير عن نفسها. ومع أنه كان مصراً طوال الوقت على أنه لا يتدخل في شؤون الدول العربية، إلا أنه لم يتوان عن التدخل في إهانة شعوب هذه الدول. لم يراع حساسية أحد من الموجودين على الأقل، وفيهم المصري والسوري والفلسطيني واليمني. ومع اقتراب الحلقة من ختامها، كان جورج قرداحي يقف كما في أسوأ الكوابيس، عارياً تماماً: رجل فوقي، ومع الأنظمة على أنواعها ضد الشعوب على أنواعها. عيناه تسيلان شبقاً على العسكر (هذه في كل حال، متلازمة يعاني منها الكثير من الصحافيين اللبنانيين). خفيف بشكل مضحك. ضحلٌ بشكل مؤسف. هذا الشخص، بهذه المواصفات، سيصير بعد أشهر على تسجيل المقابلة وزير الإعلام في لبنان. مؤشر نموذجي للأسباب التي تودي بالبلد إلى ما تودي إليه.
لاحت لقرداحي فرصة واحدة لإنقاذ نفسه، لحفظ ماء وجهه، لالتقاط أنفاسه، في آخر الحلقة، حين صوّت الجميع ضد منحه الثقة كإعلامي. قرار قاسٍ لكنه يتماشى مع قناعاتهم. كان يمكن أن يلجأ ولو مجاملاً، إلى ترهات أخرى مثل تفهم رأيهم فيه، والتحدث عن هوة ما بين جيلين، جيله الواقعي، والجيل الشاب الثوري المندفع. كان يمكنه أن يكذب فيقول لهم إن درساً ما تعلمه من هذه المواجهة. كان يمكنه أن يشجعهم على رغم رأيهم فيه. أي شيء من هذا القبيل. لم يفعل. من دون أن يتخلى عن ابتسامته الصفراء التي رافقته من أول الحلقة إلى آخرها، قرر سحب الثقة من كل الذين لم يمنحوه ثقتهم. لجأ إلى البند الأول في البيان رقم واحد الذي يتلوه ضابط يعلن انقلاباً عسكرياً: حلّ برلمان شعب. الموجودون، بلا استثناء، غالبوا ما استطاعوا ابتسامة كانت مزيجاً من السخرية والشفقة على “الإعلامي الكبير”، وقد غرق تماماً في رماله المتحركة.
إقرأوا أيضاً: