منذ أشهر اتصل بي الصديق فخري كريم صاحب «دار المدى»، وبعد السلام والسؤال قال: «ها هو الدكتور يريد أن يكلمك». ولم أكن أتوقع طبعاً أن الدكتور هو مصطفى الكاظمي، رئيس وزراء العراق. بكل أدب وتواضع تحدث رئيس الوزراء عن مشروعه لعراق جديد، مليء بالسلم والعمل والمصالحات. ولم يعتبرها إهانة عندما اعتذرت عن قبول الدعوة إلى بغداد بسبب خوفي من الحالة الأمنية، بل قال بالتواضع نفسه: لا بأس. سوف نُعلمك حين نكون في منطقة قريبة منك، نلتقي فيها.
منذ اللحظة الأولى لتسلمه رئاسة الوزراء، أدرك الناس أن مصطفى الكاظمي مشروع، وليس فرداً أو سياسياً. مشروع صعب وعميق وصادق يحاول إخراج العراق من دائرة العنف والخراب وعدم الاستقرار الذي بدأ عام 1958. الذين حاولوا اغتيال الكاظمي الأحد الماضي، كانوا يتقصدون أحلام الكاظمي بوقف الحياة القائمة على الاغتيال والعنف، وصورة الحاكم إلى خصره مسدس ظاهر. أو إنهاء قصرين ملكيين، واستبدالهما بواسطة 48 قصراً اشتراكياً.
حوالي ثلاثة أرباع القرن والعراق ينزف رجالاً وشباباً وثروات وطاقات. والرؤساء يتوارثون الاغتيال، واحداً بعد الآخر. ويبدو مشهد اغتيال عبد الكريم قاسم أمام عبد السلام عارف كأنه مأخوذ حرفياً من فيلم «العراب»، فهو أجمل تصوير سينمائي لحياة المافيا الإيطالية وقوانينها وعاداتها في الإجرام الذي لا رحمة فيه ولا صداقات.
بيان الكاظمي عن المحاولة أسلوب جديد على العراق وعلى العرب. نجا من أنياب القتل لكي يدعو إلى التهدئة، وليس إلى تعليق المشانق وتهديد المتآمرين، واستعادة نشيد الحجاج في العدالة: لقد أينعت الرؤوس وحان قطافها، ولا إلى توزيع «وجبات» المشانق على الحدائق العامة.
أهم ما في الأمر هي اللغة التي يخاطب بها الكاظمي شعبه، وأيضاً معارضيه، أو من دبروا محاولة الاغتيال. هناك لغة أخرى يتخاطب بها الناس غير القتل والموت والسحل والتقصيب. هناك الحوار الوطني والحوار العربي. وهناك العمل والعلم اللذان دعا إليهما أحمد حسن البكر. وهناك لغة أخرى غير «اسحقوهم حتى العظم». هذا أول «بلاغ رقم واحد» معاكس في العالم العربي، بالدعوة إلى مقابلة التفجير بالهدوء والتهدئة. ألا يكفي العراق ما حل به من قتل وموت وخسائر. جميعها أرقام بالملايين، إلا المال، فهو بالمليارات. وعشرات المليارات.
هناك قوى كثيرة ليس في مصلحتها مشروع الكاظمي؛ لأن لا مكان لها في استعادة عراق هادئ ومزدهر. إنه يقدم نفسه كرجل دولة مدنية سوية بعد عقود من مغامرات الظلم والقسوة وجنون الحروب التي تترك خلفها مليون قتيل وكأنهم مجرد أسماء في لائحة انتظار.
غسان شربل:الكاظمي… رجل لا يتسع له المكان؟
هذه المرة لا يمكنُ إلقاءُ التهمة على «فلول صدام حسين»، ولا تعليقُها على شمَّاعة «داعش»، ولا إلصاقُها بـ«الشيطان الأكبر». القصة من إبداعات ما يسميها مقتدى الصدر «قوى اللادولة». البصماتُ واضحة والشمسُ ساطعة.
لا غرابة في استهداف مصطفى الكاظمي. من قلب صفحات عراق ما بعد الغزو الأميركي كان يتوقّع. وضع الرجل نفسَه في عين العاصفة. لا يمكن اعتباره بريئاً. ارتكب ما يستحقُّ العقابَ الشديد. إنَّه قائد الانقلاب الذي يرمي إلى استعادة قدرات الدولة العراقية من تحت عجلات الماكينات التي أدمنت استباحتها. وهذا ليس سهلاً ولا بسيطاً. ويستحيل أن يتحقَّقَ على البارد. ولم يكن أحدٌ يتوقَّع أن تنكّسَ القوى الموتورة أعلامَها وتتنازلَ عن امتيازاتها وشراهتها.
جاءَ مصطفى الكاظمي من عالم المعلوماتِ والقراءات. ولهذا يعرف القصة بأشواكها المحلية والإقليمية الدولية. وهو ليس مغامراً أو مقامراً. يدرك الصعوبات والأفخاخ. راحَ يتقدَّم ببطءٍ وتعقّل. تصرَّف كخبير في كسح المتفجرات. ينزع الصواعقَ وحين يتعذّر الأمرُ يلتف ويؤجل من دون أن ينسى الطريق وشروط القيادة في حقول الألغام. يتقدَّم ويتراجع. يبادر وينتظر. يقدم ويهادن. وفي كلّ الأحوال لا يتنازل عن جوهر معركته وهو ترميم الدولة العراقية.
بجمل مدروسة وسلوكياتٍ هادئة حاول الاستعانة بلاعبٍ نجحت غابة البنادقِ في تغييبه في السنوات الماضية. إنَّه العراقي العادي الجالس مع مخاوفه ومراراته من دون انتماء إلا إلى الأكثرية الصامتة والصابرة. ويمكن القول إنَّ حلم الدولة الطبيعية استيقظ لدى عدد غير قليل من المواطنين. الدولة الطبيعية حيث الشرطي شرطيٌّ. والمحكمة محكمة. وحيث يصنع القرار العراقي في المؤسسات الشرعية المنتخبة، ويكون هدفه الأول الدفاعَ عن أمن العراقيين ومصالحهم واستقرار بلادهم وازدهارها.
يشعر الكاظمي بالألم حين يسمع أنَّ عراقياً غرقَ بعدما استقلَّ «قوارب الموت» محاولاً الوصول إلى الجنَّة الأوروبية. أو أنَّ عراقياً اعتقل في هذه الدولة أو تلك بعد فراره من الجحيم العراقي. يتألَّم لأنَّ العراقَ يملك أصلاً شروط الازدهار والعيش الكريم إذا استعادت دولتُه حضورَها ودورَها، والتحقت بقطار العصر لا بالقطار المسافر إلى الماضي.
يعرف الكاظمي أنَّ الكارثة بدأت من ترسيخ فكرة «الساحة العراقية» بدلاً من الدولة العراقية. وأنَّ الساحة وصفة فشل واستباحة. فهي تتيح تحريك البيادق على الساحة العراقية وتحويلها مسرحاً للحروب البديلة، ومنصة للصواريخ وورقة في الانقلاب الإقليمي، فضلاً عن أنَّها تطيح فرص الاستقرار والاستثمار والازدهار. الساحة تعني بقاء العراق المفكّك والمهدّد بالاحتراب الداخلي والفقر والقطيعة مع محيطه الطبيعي والعالم.
بدل العراق الساحة لحروب الآخرين، قدم الكاظمي صورة العراق الجسر بين القوى الإقليمية. أرض حوار وشراكة مصالح ومشروع استقرار في منطقة نزفت على مدار سنوات، وتخلفت عن ركب العالم الملتحق بقطار التقدم والثورات التكنولوجية المتلاحقة. وبالتناغم مع توجهات الرئيس برهم صالح، وبالاستعانة برصيد العراق لدى العرب والعالم، راح الكاظمي يحاول نسجَ سجادة علاقات العراق العربية والدولية. ونظرت بعض الميليشيات بقلقٍ بالغ إلى سياسة ترمي إلى إعادة التوازن، وتمكين الدولة من الذهاب بصوت واحد إلى الإقليم والعالم هو صوت المؤسسات المتفلتة من رقابة الفصائل وقواميسها المناقضة لقاموس الدولة.
لا يرى الكاظمي مصلحة للعراق في معاداة إيران. يعرف حقائقَ الجغرافيا وحقائقَ تركيبة البلاد. لكنَّه لا يرى أيضاً مصلحة في عراق تابع لإيران وملحق بقرارها. بواقعية وهدوء، روَّج لحق العراق في أن يخاطبَ دول الإقليم والعالم من دولة إلى دولة، رافضاً الانصياع للعبة تحريك الأوراق على مشارف «المنطقة الخضراء» وأصداء الصواريخ التائهة في فضاء بغداد أو أربيل.
في الداخل، ارتكب الكاظمي «جريمة» أخرى. أنكرَ على القوى الغامضة الشديدة الوضوح حق قتل من يخالف توجهاتِها. ساهمت سياسته في إماطة اللثام عن القوى التي تخاطب شبانَ الساحات بكواتم الصوت والخناجر. تشديده على التحقيق في الجرائم كشفَ هوية «فرق الموت» التي راحت تطارد الناشطين. كشفَ أيضاً أنَّ بعضَ القتلة يتحصَّنون ببزات رسمية وبطاقات ممهورة بتواقيع أمنية. وهذا فظيعٌ. كانت بعضُ القوى تراهن على أنَّها لن تتركَ بصماتِها في مسرح الجريمة. وأنَّ الدولة لن تجرؤَ على رفع البصمات أو الحديث عنها. خيَّب الرجل الهادئ توقعات بارونات السلاح، ما مكَّن العراقي العادي من معرفة صناع الكارثة.
استخدم الكاظمي سلاحَ الإقناع والصبر، لكن لم يَعُزْهُ الحزم في ترميم معنويات المؤسسة العسكرية والأمنية في مواجهة مختلف الأخطار المحدقة بالبلاد. ونجحت شخصيتُه التصالحية في خفض منسوب التوترات المذهبية، التي كان يسارع إلى تطويقها كلما هدَّدت مجدداً بالاستفحال.
تحسَّنت صورة الدولة في الداخل. وتحسَّنت صورتها في الخارج. لكن كان لا بدَّ من العودة إلى العراقيين أنفسهم ليختاروا ممثليهم وتوضيح توجهاتهم. لهذا كانت الانتخابات تجاوباً مع مطالب الشباب العراقي، وامتحاناً لتحسّن رصيد مشروع الدولة لدى المواطنين.
فوجئت بعض الميليشيات أنَّ ترساناتَها لم تنجح في إرغام صناديق الاقتراع على مبايعتها. شكَّكت في نزاهة الانتخابات، خلافاً لما قاله المراقبون العراقيون والأجانب. اتَّهمت الميليشيات التي كشفتها النتائج الكاظمي بتزوير الانتخابات لمعرفتها أنَّ الطعونَ التي تقدَّمت بها تفتقر إلى الأسباب المقنعة. هكذا بدأت عملية التهويل والتخويف على أطراف «المنطقة الخضراء». الميليشيات تؤمن بالبنادق والصواريخ لا بالإقناع وأصوات الناخبين. إنَّها مدرسة استخدام القوة لقلب الحقائق ومخاطبة المواطن والدولة. إنَّه قاموس الساحة وصياغة القرارات بفوهة البندقية وخارج الحكومة والبرلمان.
وحده الإصرار على العراق الساحة يفسّر استخدام المسيّرات في محاولة اغتيال الكاظمي المقيم على خط الزلازل الإيراني – الأميركي. من حسن حظ العراقيين وأصدقاء العراق أنَّ المحاولة لم تنجح. وبديهي أنَّ ردودَ الفعل العربية والدولية ستضاعف عزلة المتعلقين بقاموس العبوات والمسيرات والاغتيالات، لكن هذا لا يعني أنَّهم لن يجربوا وسائل أخرى. بعد الانتخابات يقف العراق على مفترق طرق. تتابع الحكومة الجديدة مشروع ترميم الدولة أو تتنازل لمنطق الساحة. هذا هو الرهان والامتحان. أما الكاظمي فقد ارتكب جريمة إيقاظ مشروع الدولة، وهي جريمة تستحقُّ ثناءَ الشعب وعقاب الميليشيات وهو شديد. ثمة من يعتقد أنَّ الكاظمي وضع المدماك الأولَ في عودة الدولة العراقية. وثمة من يعتقد أنَّ الكاظمي رجل حالمٌ لا يتَّسعُ له المكان.