تضعنا الصفحات الأولى من رواية «أشكال الرواية العاطفية» للكاتب التشيكي يان نيامَتس أمام قصة حب انتهت بعد أربع سنوات؛ بسبب فشل كلٍ من طرفيها في فهم شريكه، واستهانته بمشاعره، واختلاف نظرة كل منهما للأشياء، ومع القراءة تتكشف الرواية عن أن بطل القصة هو الكاتب نفسه، أما عشيقته فطالبة تدعى «نينا» كانت تدرس في جامعة أولوموتس، التقاها المؤلف هناك ضمن فعاليات ندوة أقيمت عن الكتابة الإبداعية، وقد وصف علاقته بها بأنها «قائمة على غير يقين». ولم يكن هذا القلق الذي يشوب العلاقة يخصه هو فقط، لكنه تسرب لحبيبته أيضاً، فراحت تسأله أكثر من مرة «لماذا أنا هنا معكَ؟ وما الذي يدفعكَ للبقاء معي؟ وكان حينها يقابلها بابتسامة دون أن يرد. وفي الفصول التالية من الرواية التي صدرت نسختها العربية عن دار الترجمان المصرية، بترجمة الدكتور خالد البلتاجي، راح نيامَتس وبضمير المتكلم يفتش عن أسباب الفشل، ويتأملها، بعد أن تراكمت بتفاصيلها الصغيرة التافهة، وأصبحت تلاً لم يعد قادراً على إزالته.
يستدعي نيامَتس حكايته التي عاشها، ويكتب تفاصيل روايته من حطام علاقة سعى من خلالها إلى إعادة النظر في طرق الكتابة عن الحب، وقد توصل في النهاية إلى ما يشبه التعليق العام والختامي على أي قصة حب فاشلة، يقول في الفصل الأخير والذي أعطاه عنوان الرواية نفسه «مثل أي اثنين فتر الحب بينهما، رأيت نينا سبباً للفراق، ورأتني هي كذلك، في عالمي الخاص كانت هي من هجرني، وفي عالمها كنت أنا من أجبرها على الفراق، في عالمي لم تقدر هي على التعايش مع ما أخذته منها، وفي عالمها كنت أنا من رفض التعاطي مع مطالبها، في عالمي كانت هي من أحجم عن الاستفاضة في الحديث عما يدور في داخلها، وفي عالمها حدثت أمور لم تقدر على أن تتحدث فيها معي».
في هذا التشابك تاه نيامَتس وسط سطور روايته، كفاعل وفي الوقت نفسه كمفعول به، وكان بالكاد يميز وجهه عن وجه بطله، فهو الكاتب وبطل القصة في الوقت نفسه، ولم يسع، ربما رغبة منه في توصيل رسالته المعذبة إلى حبيبته، إلى أن يتخلى عن اسمه الحقيقي، فقد جعل اسم البطل يان نيامَتس أيضاً، في حين جعل من عشيقته «نينا» مجرد صيغة لغوية محايدة لامرأة يخاطبها، لا تضع اعتباراً لأي شيء، ثم راح يؤدي طقس كتابة رواية عاطفية بعصاة مشتعلة، دسَّها في موقد يمتلئ بالرماد. وقد كان ينقصه، وحتى يكتشف ما الذي جرى ويعرف كيف وصلا معاً للنهاية المؤسفة هذه، مفتاح العلاقة العاطفية، ووجود وعي ثان يكشف أمام عينيه الأشياء الصغيرة التي لم يكن يعتقد يوماً أنها يمكن أن تؤدي إلى نهاية قصة حب كان يرى أنها «غاية الجمال»، وقد راح يفكر فيما قام به وفيما فعلت نينا لكي يغادر كل منهما عالم الآخر.
ورغم تعدد المدن والأماكن التي دار الحديث عنها في الرواية، فإن المؤلف جعل مدينة برنو التي انتقلت إليها البطلة للعيش مع نيامَتس موقعاً لبدء قصة حبهما ونهايتها أيضاً، هناك في بناية قديمة، وفيها أيضاً بدأت ملاحظات كل منهما على شخصية الآخر. كان هو يلقي الكلام على عواهنه دون أن يعرف أن نينا تلتقطه وتفك شفراته، وتقوم بتحليله لتعرف منه طبيعة شخصيته، وتقرأ من خلاله ما يمكن أن تكون عليه العلاقة في المستقبل. وضعت نظرته للنساء تحت منظار مخاوفها، وتحفظت على تجاهله لأسرتها وأصدقائها، وراحت تنتقد حتى تصرفاته البسيطة في المنزل. وحين اكتشفت إدمانه مشاهدة الأفلام الإباحية، رأت أنها تشكل إهانة لها ولأنوثتها، وقررت على أثرها أن تنهي العلاقة من طرف واحد. أما هو فقد رأى في ذلك تعسفاً وأنها اتخذت قراراها دون سابق إنذار أو استطلاع رأيه بوصفه الطرف الآخر في العلاقة. ذهبت لعائلتها ولم تعد ترد على مكالماته الهاتفية، وتجاهلت رسائله التي انهالت منه على بريدها الإلكتروني، وحين زاد ضغطه عليها قالت له إنها قررت وضع حد لما بينهما، وانتهى كل شيء. أما نيامَتس فقد راح يهذي، يصف المدن التي زاراها سوياً، والشوارع التي سارا فيها معاً، والبيوت التي سكناها أو فتحت أبوابها لهما، والغرف التي تشاجرا فيها وتصالحا وتحابا، وقد كان حينما يصل إلى ذروة حنينه لها يضع أذنه خلف جدار غرفتها التي كانا يسكناها معاً، ربما يتسمع صوت أنفاسها وهي نائمة، وقد كان الخطاب السردي في كل ذلك بلسان المؤلف المتماهي مع شخصية بطل الرواية.
وخلال أحداث القصة التي جاءت بعض فصولها بعناوين شعرية، يتنقل نيامَتس عبر عوالم مختلفة، يحكي عن صديقه الكاتب الراحل بالابان وروايته الجديدة «اسأل أبي»، ومدينة أوسترافا التي تقع بها الكنيسة الإنجيلية التي تم تشييع جثمانه منها، ويصف دار النشر التي يعمل فيها، وجامعة أولوموتس التي التقى فيها نينا لأول مرة، ويرصد مشاعر الناس وينتقد لامبالاتهم ويفضح نفسه أيضاً، ثم يعود للحديث عن حبيبته وقصته الفاشلة، فلم يكن يريد في تلك الآونة أكثر من فهم الخطأ الذي أدى لفشله في الاحتفاظ بمعشوقته.
ومن أجل تعميق شعور بطله بالمأساة، لجأ المؤلف لاستخدام العديد من الحيل والتقنيات السردية المختلفة، والكثير من المقتطفات من الرسائل والتقارير الإخبارية، وأشار إلى أعمال نثرية شهيرة، كما استفاد من تقنية التناص مع مقتطفات من كتاب «الإنسان المتمرد» لألبير كامو، والروائي الإنجليزي رينولد شاندلر، وهيرمان بروخ، كما استدعى ميخال فيفاج وميلان كونديرا ليضعا لمستهما الساخرة على ما ينضح عن روحه من قصص يعبر فيها عن خلجات نفسه وأفكاره التي راحت تنتابه، وهو يبحث عن أسباب مقنعة لقرار حبيبته بالابتعاد عنه، كما استعان بمقطع من رواية «رباعية الإسكندرية» للروائي الإنجليزي لورانس دوريل، ومقتطف من كتاب لينوارد كوهين «حياتي في الفن» والذي يعبّر فيه بوضوح عن شعوره بمتعة كبيرة مع حبيبته، يقول وهو يحاول أن يواسي نفسه «أنا سعيد، حتى لو هجرتني، يكفيني أني نلت غاية الجمال».
وهكذا جاءت معظم المقتطفات التي اقتبسها، إما معبرة عن أفكار أو مقترحات غير مكتملة أو تشير إلى خوف يتسرب من النص لبطل الرواية الذي يدخل في محاولات عبثية للتحليل العقلاني، واللوم وتوبيخ الذات، أما تفاعلاته على مواقع التواصل الاجتماعي والتي ينسخها كما هي، ويحرص على أن يضعها باليوم والساعة والدقيقة والثانية فقد كانت تكتسي بمسحة حزن تغزو روحه، وتعبر عن إحساسه بالفقد الذي يعيشه. وقد استدعى بعض القصص والأخبار من هنا وهناك لتعبّر عن حاله، وتعطي صورة استعمارية لما يمر به من خيبة أمل، وهذا هو الدور في الغالب الذي جعله يقوم بنشرها على صفحته في «فيسبوك»، وقد كانت في معظمها تدور حول أشخاص يعانون من أزمات عاطفية، وحنين لذكريات مضت ولم يبق منها إلا آثارها في نفوسهم، وقد أشار بعضها إلى حيرة، وضياع لدى آخرين بسبب عدم العثور على حبيب قابلوه صدفة في سوبر ماركت أو محل لبيع الزهور، ولم يستطيعوا التواصل معه.
هناك جانب مهم في رواية نيامَتس، وهو رصده لجغرافيا المدن التي تدور فيها الأحداث، وقد راح يتجول فيها، ويصف شوارعها وقصورها وكنائسها، وقلاعها التاريخية، يثبتها في الذاكرة؛ لأنه يخشي عليها من زحف العمارة الحديثة، يراها نموذجاً للبقاء في مواجهة الزمن، يساويها بعلاقات العشق القديمة التي استطاعت تجاوز التقلبات، ومعارك الحياة، ثم يضعها في مقابل علاقته بـ«نينا» التي لم تقو على مواجهة ما ظن أنه خلافات تافهة. وعلى هذا الحال راح يقضي الليالي شارداً، يفتش في رسائلها، عله يستعيد رائحة أيام عشقه التي مضت.
ورغم كل مشاعر الأسى والإحساس بالظلم الذي كان يشعر به نيامَتس من هجر حبيبته، فإنه لم يستأثر بالسرد بمفرده، بل أتاح لها فرصة للتعبير عن نفسها وعما آلت إليه العلاقة بينهما، وقد أعطاها في المائة صفحة الأخيرة من الرواية فرصة للدفاع عن موقفها، حيث جاء السرد في هذا الجزء مكثفاً وحميمياً ومختلفاً عما سبقه من فصول جاءت بلسان البطل وبضمير المتكلم، واتسمت بالتشظي والتوتر، والشعور بالظلم والغبن.