قل أن حظي شاعر معاصر بما حظي به الشاعر التركي ناظم حكمت من شهرة واهتمام نقدي وتعاطف واسع، على المستويين الوطني والعالمي. لا بل إن ما لقيه الشاعر من حفاوة وتقدير على الصعيد العالمي، يفوق بأضعاف ما لقيه في بلاده، التي لم يجد حكامها العسكريون طريقة ملائمة لتكريمه، كشيوعي بالغ الخطورة، سوى ملاحقته الدائمة ومصادرة كتبه، وصولاً إلى إيداعه السجون لسنوات طويلة. ومع أن الشاعر كان يمتلك بوسامته البادية وعينيه الزرقاوين الصافتين وقامته الفارعة، فضلاً عن موهبته العالية، كل ما يوفر له أسباب السعادة والطمأنينة، إلا أن انتماءه العقائدي لم يكن ليوضع من قبَل سلطات بلاده في خانة الآيديولوجيا المناهضة وحدها، بل يُنظر إليه من زاوية العداء التاريخي المستحكم مع الروس، في الآن ذاته. وإذ لمح حكمت غير مرة إلى أن السلطة الحاكمة كانت تدبر مكيدة لاغتياله خارج السجن، بطريقة لا تثير الشبهات، تمكن في غفلة من العسس، من الفرار بأعجوبة عبر البحر، ليصل بعد ذلك إلى موسكو، حيث ستأخذ حياته اللاحقة مساراً آخر.
إلا أن الحديث عن الحقبة الموسكوبية التي سبقت وفاة ناظم حكمت، والتي نقلتها زوجته الأخيرة فيرا تولياكوفا إلى القراء، بقدر عال من البراعة السردية والدفء الحميم، لا يستقيم بأي حال دون التوقف قليلاً عند حياة ناظم العاطفية السابقة، حيث ارتبط الشاعر الشغوف بالحياة بغير قصة حب، وغير علاقة زوجية. ولا نستطيع في هذا السياق أن نغفل العلاقة الملتبسة التي ربطت حكمت بزوجته بيراييه، حيث لم يتح لهما أن يعيشا تحت سقف واحد لأكثر من سنوات ثلاث، فيما ظل الشاعر خلال السنين المتبقية قابعاً خلف ظلمة السجون. على أن الزوجة المثقفة التي حرصت على الوفاء للشاعر طيلة سنوات سجنه الطويلة، لم تستطع أن تغفر له خيانته لها مع امرأة أخرى يختزلها ناظم اسمها بالحرف «س»، معترفاً بفعلته تلك، كما بإلحاح زوجته في طلب الطلاق. وهو ما حدث بالفعل قبل خروج الشاعر من السجن، ليتزوج دون إبطاء من امرأة أخرى هي منور، التي ظهر اسمها في الكثير من قصائده العاطفية. وإذا كان حنا مينة قد اعتبر في كتابه «ناظم حكمت\ السجن، المرأة، الحياة»، أن بيراييه ومنور هما المرأة عينها، عاد في كتابه اللاحق «ناظم حكمت ثائراً» ليتراجع عن رأيه السابق، مؤكداً أنهما امرأتان مختلفتان. كما أن مينة الذي كان قد أشار إلى عجز حكمت عن الإنجاب، بناء لاعتراف شخصي من الشاعر لصديقه الكاتب كمال طاهر، عاد لاحقاً ليؤكد أن ولده محمد هو ابنه البيولوجي، الذي كان قد تنبأ بولادته في قصيدة استشرافية يقول فيها:
سيولد منا، يا منور، أكمل من ولد من التراب
ومن النار والبحار
ودون خوف ولا تفكير
سيترك الناس أيدي الناس
ناظرين إلى النجوم قائلين: الحياة شيء جميل
أما البرود العاطفي الذي أظهره حكمت إزاء الزوجة السابقة التي هدرت سنوات شبابها في سبيل حبها له، فيعيده صاحب «المصابيح الزرق» إلى التكوين النفسي للشعراء والفنانين، الذين يشكل النأي والابتعاد جزءاً لا يتجزأ من افتتانهم بالمرأة، كما بسائر الموجودات. لكن التحقق الفعلي للمرأة المحبوبة يتسبب بإبطال الجانب الأكبر من هذا السحر، ويعيد الأشياء إلى حجمها الطبيعي. كما يرى مينة أن حكمت الذي وجد نفسه حائراً بين خياري الوفاء لزوجته والوفاء لقصيدته، لم يملك كشاعر مبدع سوى أن ينتصر للخيار الثاني، وهو الأمر البديهي في رأيه. لكن اللافت في الوقت ذاته أن العلاقة الجديدة مع منور لم تثبت طويلاً إزاء الزمن، كما ظلت محاطة بالكثير من الغموض واللبس، قبل أن تخلي مكانها لعلاقة جديدة كان مقدراً لها أن تتم في ظروف مغايرة وفوق مسرح آخر.
كان من الطبيعي أن يُستقبل ناظم حكمت في موسكو استقبال الفاتحين، خصوصاً أن حملة تضامنٍ واسعة قد سبقت إطلاق سراحه، محولة إياه إلى واحد من الرموز الشعرية والنضالية الأكثر شهرة على الصعيد العالمي. على أن الهالة التي أحاطت به والأدوار المتعددة التي أسندت إليه، لم تستطع أن تردم في أعماقه شعوراً داهماً بالوحشة واقتراب الكهولة، وصولاً إلى توجسه من الموت المفاجئ، بفعل مرض في القلب والأوعية الدموية يصعب شفاؤه. ولأن المرأة وحدها هي القادرة، في رأيه، على منحه الدفء الذي يحتاجه، فلم يكد بصره يقع على الشابة الجميلة فيرا تولياكوفا، التي قصدت منزله طلباً للمساعدة في مجال الأفلام المتحركة، حتى أدرك حكمت، وهو المحاط بعشرات المعجبات المماثلات، أن لهذه المرأة سحرها المختلف، وأنها وحدها القادرة على بعث الحياة في أوصاله اليابسة.
قد تكون السيرة التي تولت فيرا تولياكوفا كتابتها بنفسها تحت عنوان «الحديث الأخير مع ناظم»، هي إحدى أكثر السير المماثلة شفافية وصدقاً وغنى بالتفاصيل. والواضح أن تولياكوفا لا تظهر في كتابها بمظهر الكاتبة الهاوية التي تريد الاتكاء على مكانة زوجها الراحل لتحقيق الشهرة، بل هي عملت على تنويع أساليب السرد، متنقلة برشاقة بين الأزمنة، ودافعة عصب اللغة إلى مداه الأخير. ولعل ما أضفى على العمل تلك الشحنة الفائضة من العاطفة والبوح الحميم، هو كون الزوجة المفجوعة قد شرعت في كتابته بعد أسبوعين اثنين من رحيل زوجها، ومن ثم استمرت في الكتابة لعامين متتاليين. وهو ما أتاح لفيرا أن تطلق العنان للغتها الفوارة وحبها الجامح، في ظل الشعور الممض بالخسارة، والوطأة الثقيلة للفقدان. ولعل الغليان العاطفي الذي يقف وراء الكتاب، هو الذي جعل فيرا تستسلم تماماً لإغواء السرد، مدونة في البدء ما يزيد عن الصفحات الألف، قبل أن تعمد إلى حذف الكثير من التفاصيل الحميمة للعلاقة، كما تشير في مقدمة الكتاب.
«كنتَ منذ أن جئت إلى موسكو، أشبه بالأسطورة، وكنت بالنسبة لي بعيداً كأولئك الذين يعملون في الكرملين»، تقول تولياكوفا لحكمت بعد رحيله. وهي إذ تختار ضمير المخاطب كصيغة للكتابة، تبدو وكأنها ترفض بشكل قاطع فكرة غيابه عن العالم، وهو الماثل في وجدانها من خلال حضوره الأخاذ، كما من خلال إبداعه ومواقفه النضالية والإنسانية. على أن أكثر ما يلفت في السيرة، ليس فقط الوقوع السريع للشاعر في حب الشابة الشقراء التي تصغره بعقود، بل اكتشاف فيرا منذ لحظة اللقاء الأولى أن ناظم مصاب بمرض خطير في القلب والشرايين، وهو ما أكسب العلاقة طابعها الدرامي والرومانسي، بحيث راح الحب بين الطرفين ينمو في كنف القلق والخوف من المجهول والسباق مع الموت. ومع ذلك فقد احتاجت فيرا إلى وقت غير قليل، لتتأكد من مشاعرها الحقيقية إزاء الرجل الذي تمنت نساء كثيرات أن يحظين منه بأدنى التفاتة، فيما كان من جهته، ومنذ الأيام الأولى للقائها به، يعترف لها بحبه باكياً، كما تروي. ثم تضيف بأنها المرة الأولى التي قيض لها من خلالها أن تعرف كيف يبكي الرجال.
تحاول فيرا تولياكوفا من خلال سردها الشيق أن توائم قدر استطاعتها بين موجبات الوفاء للشاعر الذي أحبته، وبين الحرص المقابل على تقديمه كإنسان وكزوج، بقدر من الموضوعية والالتزام بالحقيقة، وبمعزل عن هالة التعظيم و«الأسطرة» التي أحاطت به. ففيرا التي وقعت بعد تردد في حب ناظم، مقررة الزواج منه والتخلي عن زوجها الأول، لا تتوانى في غير مناسبة عن الإشارة إلى الغيرة شبه «المرَضية» التي كان يبديها حكمت إزاءها. فقد كان، في فترة التعارف السابقة على الزواج، يحرص على الاتصال بمكتبها مرات عدة في اليوم الواحد. «كنت تفكر في نفسك فقط. أردت أن تضعني في مجال سيطرتك، ولم تمنحني الفرصة لكي أتوقف ولو للحظة عن التفكير بك»، تقول له في أحد فصول السيرة. ثم تقول في مكان آخر بأن الحياة تمنحنا في بعض الأحيان شعراء إنسانيين وعظماء، ومع ذلك فيمكن لهؤلاء ببساطة «أن يلصقوك بالحائط، ويستجوبوك بإلحاح كما يفعل المحققون». ومع ذلك فإن الكاتبة نفسها ما تلبث أن تضع غيرة الشاعر ونزوعه المفرط للتملك في إطارهما الصحيح، حيث لم تكن الشهرة وحدها قادرة أن تدرأ عنه وطأة السجن والمنفى والمرض وشبح الموت المتربص، بل كانت روحه القلقة تحتاج إلى حب عميق يحميه من الصقيع. حتى إذا وجده، مشفوعاً بالحنان والجمال والذكاء، عند تولياكوفا بالذات، تشبث به كما يفعل الغريق بقشة النجاة الأخيرة. والأدل على ذلك هو قول حكمت لها في إحدى القصائد:
أحبكِ كما أحب الخبز المغمس بالملح
أحبك مثل كلمات «الحمد لله،
لا أزال أحيا»
بفضلكِ أنت تمنحني الأشجار ثمارها
بفضلكِ أجمع العسل من ورود الأمل
وبفضلكِ أيضاً لن أسمح للموت أن يصل إلي
وكما حرصت فرنسواز جيلو على أن تقدم في كتابها عن بيكاسو صورة بانورامية عن عصر بكامله، فعلت تولياكوفا الشيء نفسه، ولو بعاطفة أشد، وبنبرة من الرومانسية فرضتها الطبيعة المختلفة للعلاقتين. ففي سياق التركيز على التوتر السياسي والأمني الذي كان يسود العالم، زمن الحرب الباردة بين المعسكرين، تحدثت الكاتبة عن أسفار زوجها المتكررة إلى الخارج، وعن دوره البارز والطليعي في مختلف المهرجانات والمؤتمرات الثقافية التي حضرها، بخاصة مؤتمر القاهرة، حيث خصه عبد الناصر بلفتة تكريمية مؤثرة. كما تحدثت عن تحول موسكو، خلال تلك الحقبة، إلى قبلة أنظار رئيسية لكتاب العالم اليساريين. واللافت هنا أن الانطباعات التي قدمتها فيرا عن لقائها غير مرة بأراغون وإلسا تريوليه، كما بنيرودا وماتيلدا، لم تخل تماماً من الغمز واللمز والشعور الواضح بالمنافسة، إذ أشارت بشيء من السخرية إلى «جنون» أراغون بإلسا، كما إلى النزعة العدائية عند هذه الأخيرة، ولتشاوفها وثقل حضورها. فيما تعاملت مع ماتيلدا بوصفها زوجة نيرودا المضجرة وطليقته المحتملة.
ثمة أمر آخر ألحت فيرا تولياكوفا على إبرازه في السيرة، وهو يتعلق بإزالة الصورة النمطية المتعلقة بولاء ناظم حكمت «الأعمى» للنموذج الشيوعي السوفياتي، وغض بصره عن الفظاعات المروعة التي ارتكبت بحق ملايين المحتجين على الوضع السائد. فهي لا تُظهر أي تشكيك برواية ناظم المتعلقة بمرضه، التي يؤكد فيها أن السبب الحقيقي لتفاقم وضعه الصحي هو عجز قلبه المتعب عن تحمل ثقل المجنزرات السوفياتية التي قمعت انتفاضة المجر، بعيد رحيل ستالين بفترة وجيزة. كما تتحدث فيرا عن تبرم ناظم العلني من إخضاع الفن للفحوص المخبرية الآيديولوجية، ومن قمع الكتاب المعارضين للفساد البيروقراطي، وكيف عرضهما ذلك معاً للملاحقة الدائمة من قبل المخابرات وأجهزة الأمن. كما آلمها إلى حد بعيد موقف السخرية والاستهجان الذي أظهره سدنة السلطة السياسية وكتابها، إزاء ما كتبه عن زوجته من قصائد الشغف والتتيم، معتبرين أن مثل هذه الرقة المفرطة لا تليق بشاعر مثل ناظم، ينبغي أن يكرس نفسه، في رأيهم، لمجابهة الإمبريالية العالمية و«تخرصات» شعرائها ومثقفيها. غير أن حكمت المثقل بالأعباء، والمنهك جسداً وروحاً، لم يأبه بكل ذلك الابتزاز الدوغمائي، وهو الذي وجد في عشقه لتولياكوفا، ملاذه ومتكأه وضالته الأخيرة. حتى إذا استشرف نهايته الوشيكة، خاطب زوجته بالقول:
سيبقى هذا الفراق ورائي مثل شارع تحت المطر
سأذهب إلى اللامكان ولن يعيدني شيء
لا السفن ولا الطائرات ولا القطارات
لن أرسل الرسائل ولا البرقيات
لن تضحكي برقة عند سماع صوتي عبر الهاتف
وستبقين وحيدة