منذ أشهر، أو حتى سنوات، والصحافة الدولية تتحدث عن ظهور وشيك لسيف الإسلام القذافي. وسرت تكهنات كثيرة حول مكان وجوده. وسيف الإسلام هو الابن الأكثر شهرة بين أبناء العقيد. وكانت له صورة مقبولة، وأحياناً شعبية خارج ليبيا. وفي داخلها كان يمثل صورة التغيير والاختلاف والعودة إلى نظام طبيعي ولو تظاهر بالحفاظ على الأفكار الجماهيرية. وهكذا، طمأن سيف فريق الأب والمؤمَّلين معاً. وجمع من حوله عدداً من أبرز المتقدمين. واكتملت له في الغرب صورة المغيّر المنتظر، في هدوء ومن دون تعريض ليبيا لجراح «ثورة» جديدة.
لكن الثورة لم تنتظر أناقة الوريث الشاب وأبنائه. وكان أمامه خيار واحد: القتال إلى جانب الأب. وما تلا كان محزناً ومؤسفاً، ولا يزال. لكن ما ليس مفهوماً أن يطل الوريث في عباءة الأب. فالعباءة تعبير عن تحدٍ، لا مكان له في ليبيا الممزقة والتائهة بين النوازع القبلية، والأمل في دولة موحدة تستطيع تجاوز الجراح التي تعددت وتوسعت خلال عقد من الفوضى والضياع والتباعد.
هل كان في إمكان الرجل أن يطل في صورة أخرى ولم يَفعل؟ صورته يحيط نفسه «بالمدنيين» والخبراء وحالمي الجمهورية، لا الجماهيرية الذين كانوا يحيطون به؟ هل هي مجرد إطلالة «جس نبض» يعرف من خلالها الردود على خطوته؟ هل يقلب أوراق المصالحة ويعيد كل شيء إلى اليوم التالي لمقتل والده في عمق شديد القباحة من دون محاكمة، ولو شكلية، كما هي محاكمات العالم العربي، بما فيها «محاكم اللجان الشعبية»؟
يكاد العالم ينسى ليبيا، كما نسي سوريا والعراق. محادثات ومؤتمرات لا طائل منها. ومبعوثون دوليون ولجان وفشل يُرسِّخ الأحقاد والثأر. ماذا لو أطل سيف الإسلام بلباس لا يوحي بالثأر بل بالعفو والقانون وتلك الدساتير التي كان يبشر بها؟
التحزر كثير والتكهنات شتى. لعل خطوة سيف الإسلام التالية تكشف المزيد عن خططه، لكنها، حتى الآن، تزيد في حيرة الليبيين، وتشعل العواطف في الاتجاهين. أو أكثر. وتزيد في حيرة الجوار ومن ثم العالم العربي، وخصوصاً مصر، المعنية الأولى بدولة مستقرة في ليبيا.
عبد الرحمن الراشد:صعود القذافي الابن
ما كان العالم يظنه مستحيلاً أصبح الأكثر احتمالاً، عودة القذافي إلى الحكم في ليبيا. مر دهر عاصف، من إسقاط النظام إلى اغتيال معمر القذافي، واعتقال ابنه سيف الإسلام، وملاحقة وتصفية أفراد عائلته وقيادات النظام السابق. كان ذلك يعني نهاية حقبة أربعة عقود قذافية.
فهل ظهور سيف الإسلام، وسعيه للترشح الرئاسي مصادفة؟ عودته نتيجة الفشل السياسي واستمرار الحرب الأهلية، والفوضى، والتقسيم، وانتشار الميليشيات المحلية والمرتزقة الأجانب، وتقاتل القوى الخارجية على تقرير مصير ليبيا، وكأن لسان حال الليبيين يقول، إن كان حكم القذافي سيئاً فإن ما تلاه أسوأ.
لكن السؤال يوجه لليبيين، هل حقاً يرغبون في عودة القذاذفة للحكم؟ تقول مؤسسة راند في استطلاع، تزامن مع استحداث قانون العزل عام 2013، إن غالبية الليبيين تؤيد حظر كل من عمل في نظام القذافي ومنعه من الانخراط في النظام السياسي البديل، وهذا الاستنتاج تناقض مع تعيين وزير العدل الراحل في عهد القذافي، مصطفى عبد الجليل، وتم اختياره بالأغلبية، رئيساً انتقالياً لليبيا الجديدة.
على أي حال، في السياسة الأمور نسبية ومتغيرة. وكذلك حال ليبيا، بلد ممزق، بثلاث عواصم، طرابلس وطبرق وبنغازي، وبعشرات الزعامات. ورغم كثرة ميليشياته المسلحة، يستورد مقاتلين مرتزقة من الخارج. بلدٌ اليوم بلا أفق لحل سياسي، وبكل أسف، سيدوم الحال بدون توافق ليبي ليبي، وبدون اتفاق القوى الإقليمية والدولية على حل.
في هذا الوضع المشتبك والتزاحم على السلطة، ستشعل عودة القذافي الابن المشهد، وستزيده إرباكاً، وعودته قد توسع الحرب أو تنهيها.
هل تغير القذافيون، أعني المنتمين لتلك الحقبة؟ هم يلومون القوى الخارجية على إسقاط معمر ونظامه، وأنه ما كان له أن يسقط محلياً. الأمر متفق عليه، أن الناتو شارك عسكرياً في الحرب، وأيده مجلس الأمن في واحدة من الحالات التاريخية النادرة، وأنهى النظام. لكن ذلك الإجماع الدولي جاء نتيجة تراكمات طويلة من الصراعات غير المبررة التي انخرط فيها القذافي إقليمياً ودولياً، ولعب أدواراً خطيرة، وبالتالي سقوطه كان مسألة حتمية. والحقيقة أن معمر فوّت فرصة إعادة تأهيل النظام، بما في ذلك المشروع الذي تبناه ابنه سيف الإسلام، واعتبره البعض تغييراً في أسلوب الحكم، وربما تغييراً في الحكم.
وبعد الثورة، جاء من أتباع القذافي من يدعي أن مشروع تمدين النظام سبب في إسقاطه، والحقيقة العكس هو الصحيح، ففشل النظام في التطور الداخلي من عوامل سقوط دولته. وجاءت محاولة سيف الإسلام متأخرة، الذي عاد من بريطانيا بأفكار تحديثية، حيث كانت مؤسسة الحكم عاجزة وترفض التطور. عندما سقطت دولة «الجماهيرية» لم تسقط عن عجز بل كانت من أقوى دول المنطقة تسليحاً، ومن أغنى دول العالم، في أرصدتها الخارجية نحو 700 مليار دولار. وكان يفترض في حظها وحظ شعبها أن تكون واحة للتمدن، وليس التباهي بالاستقرار فقط.
بالتأكيد، الليبيون يكرهون الحاضر الذين يعيشونه اليوم من وراء ويلات الحرب الأهلية، إنما هذه ليست تذكرة سفر سهلة للعودة بهم للأمس، لما قبل عام 2011. أيضاً، المجتمع الدولي، بمؤسساته المختلفة، تخيفه صورة القذافي القديم الذي رفضه، مثلما رفض صدام العراق، ويحاصر اليوم خامنئي إيران. وقد يريد القذافي الابن باستنساخه صورة الأب، أن يكون ليبياً خالصاً، أقرب للشعب الليبي، لكن، ومهما قيل، فإن تحسر الناس على عهد ما قبل الثورة لا يعني أنهم يحنون لنفس النظام. الأنظمة الناجحة هي تلك التي تتطلع للمستقبل وتقدم نموذجها الجديد وليس بإعادة تدوير الماضي.