لم يكن ميتران الرئيس الوحيد الذي اعتقد بأن «قوى خارقة» تحدد قدره وقدر الأمة الفرنسية، بل إن سلسلة طويلة من الحكام والزعماء آمنت بذلك أيضاً. وأشهر هؤلاء كان الرجل الأكثر رعباً وعنفاً في الثورة الفرنسية، ماكسيمليان روبسبيير. ونشأت من حوله طائفة تعتبره مسيحاً. أما نابليون بونابارت فكان أقل إيماناً بالعرافات من زوجته الإمبراطورة جوزفين، التي كانت تلجأ باستمرار إلى العرافة الشهيرة، مدام لوتورمان. غير أن الإمبراطور نفسه كان له أيضاً «نجمه الجيد» الذي يتفاءل به. وقبيل معركة واترلو، التي أنهت حياته العسكرية والسياسية، شعر أن الأمور تسري عكس تياره، وذهب إلى قصر مالمزون قرب باريس، يتأمل السماء عبثاً في البحث عن نجمه السعيد.
لم يضع عصر الجمهورية الديمقراطية، ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر، حداً لشغف أتباع النجوم والاتحاد الميتافيزيقي مع الحياة الآخرة، بل على العكس. فمن المعتقد أن أعظم شخصيات الجمهورية الثالثة استعانت بخدمات العرافين، من بينها ريمون بوينكاريه وجورج كليمنصو. واستمرت هذه النزعة حتى بعد الحرب العالمية الثانية، لا سيما في الأوساط السياسية، مع شخصيات مثل الرئيس الاشتراكي فانسان أوريول، ورئيس الوزراء المحافظ أنطوان بيناي. ولعل أغرب مثل من أحدث الشخصيات، بالإضافة إلى الرئيس ميتران، هو اسم شارل ديغول، قائد المقاومة ومؤسس الجمهورية الخامسة. فمن غير المعروف أنه كان يستشير المنجم موريس فاسي سراً طيلة فترة رئاسته. وكان فاسي رائداً في الجيش الفرنسي، التقى ديغول لأول مرة في طولون في أغسطس (آب) من العام 1944، وكان ديغول يشيد بفاسي مسمياً إياه «جندياً جيداً ومنجماً جيداً». ولعل هذه المعلومة تضفي معنى جديداً على الجملة الختامية لمذكرات الحرب الخاصة بالجنرال ديغول، التي يقول فيها «محدقاً في النجوم، أستوعب بعمق قلة أهمية الأشياء»؟
منذ أواخر القرون الوسطى، ابتداءً من تنبؤات نوستراداموس حول نهاية العالم التي نشرت على مراحل في أواسط القرن السادس عشر، كان هناك اهتمام فرنسي مستمر في دمج مراقبة النجوم بالسحر والتاريخ بهدف كشف معاني الكون المستترة. وفي العام 1954 يقدر عدد العرافين في فرنسا بنحو 50.000 شخص. وما زال هذا الاعتقاد بنوع من الماورائيات شائعاً: فمن المقدر أن نحو 10 ملايين فرنسي وفرنسية يزورون منجماً كل عام. وتتضمن المكتبات الفرنسية الكبيرة، أقساماً غنية خاصة بكتب التنجيم. وبحسب أرقام المبيع الرسمية، تم طبع أكثر من ستة ملايين نسخة من هذه الكتب في فرنسا العام 2011، وهذا الرقم يفوق عدد نسخ المطبوعات الدينية، ويكاد يوازي عدد نسخ المطبوعات التاريخية. وقد حاول السوسيولوجيون تفسير هذه الظاهرة بأنها تأتي جواباً على الانعزال الذي أنتجته الفردانية المعاصرة، وبقاء الاعتقادات الخرافية.
كانَ الجوُّ كئيباً في مدخل الفندق البعيد. بدَّد الخريفُ نضارة الملامح ونزعت الأشجار ثيابَها وهيبتَها. تراكمت الأوراق كذكريات الجمهورية المستباحة. حين أرشدوه إلى قاعة الاجتماعات ازدادَ توجُّسُه. رأى في الزاوية علماً لبنانياً. بدا العلم على الفور مهيض الجناح وذليلاً ومرتبكاً كأنه يبحث عن وسيلة لإخفاء وجهه. ضاعف من المشاعر انعقاد اللقاء عشية ذكرى استقلال لبنان.
شعر بارتباك لم يعرف مثيلاً له على امتداد عمره الصاخب. هل جاؤوا به لسؤاله عن حال الاستقلال؟ سيكون الأمر مريراً إذا صحَّتْ ظنونُه. راودته عنجهية الأيام الماضية. سيردُّ عليهم باتهامهم. كأنْ يقول إنَّ المتفجرات التي تجمَّعت في عهودكم ولم تنزعوا صواعقَها انفجرت في عهدي. يمكن أن يفكِّرَ في استخدام عبارة قلب الطاولة على الحاضرين، لكن يخشى غضبَ رجلين سيشاركان في الاجتماع ويعرفانه من الوريد إلى الوريد.
قبل الوصول إلى المقعد المخصَّص له راح يقلب أسماءَ المشاركين. الرؤساء بشارة الخوري وكميل شمعون وفؤاد شهاب وشارل حلو وسليمان فرنجية وإلياس سركيس وبشير الجميل ورينيه معوض وإلياس الهراوي. ولاحظ على صفٍّ خاص ثلاثة رؤساء وُجِّهت إليهم الدعوة كمراقبين وهم أمين الجميل وإميل لحود وميشال سليمان. حاول إيقاظ أسلحة ذاكرته فربما احتاجها. يمكن أن يقولَ لبشارة الخوري إنَّه أرغم على مغادرة القصر الذي أصرَّ على تمديد إقامته فيه بفعل عاصفة شعبية وبعدما أسرف شقيقُه في التدخلات واستغلال نفوذ شقيقه. يمكن أن يذكّر كميل شمعون بأنَّه غادر على وقع ثورة عارمة لكنَّه في داخله يَغار من جاذبية هذا الثعلب ويخشى منه. يحرجه اللواء فؤاد شهاب. تولَّى الرئاسة من دون أن يتلطَّخَ وبدا دائماً أكبرَ من مكتبه. شارل حلو ليس مشكلة. يمكن تذكيره بأنَّ «اتفاق القاهرة» مع منظمة التحرير الفلسطينية الذي انتقصَ من سيادة الدولة وقع في عهده. يحرجه أيضاً إلياس سركيس. لا يمكن اتهامُه لا بقطرة دم ولا بحفنة مال. مرَّ بحاكمية البنك المركزي ولم تعلق ذرة غبارٍ بهالة نزاهتِه، ومرَّ بالقصر الجمهوري ولم يكتفِ برفض التوسل لتمديد إقامته، بل أصرَّ على مغادرة القصر طبقاً لما «جاء في الكتاب» أي الدستور.
افتتح بشارة الخوري الجلسة مشيراً إلى انعقادها في ذكرى استقلال لبنان في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1943، وقال إنَّ نزلاءَ الفندق البعيد الذين يشعرون بقلقٍ شديد على وطنهم قرَّروا استدعاءَ الرئيس ميشال عون والاستماع إليه، كما وجَّهوا الدعوة إلى الرؤساء السابقين الأحياء للحضور لكن كمراقبين.
فوجئ الحاضرون بمسارعة فؤاد شهاب إلى طلب الكلام على رغم ميلِه المزمن إلى الصمت والتعالي عن أي ردٍّ أو تبرير. قال شهاب: «أريد اغتنام الفرصة لأعتذر من الشعب اللبناني لأنَّ تولي الرئاسة استخدم لاحقاً على نحو سيئ وألحق الضرر بالبلاد والمؤسسة العسكرية معاً. حين وافقت بعد أحداث 1958 على تولي الرئاسة كنت أشعر بحاجة البلد إلى مؤسسات تحميه من الانهيارات. ومن حسن الحظ لم يكن لدي ابن أتنكر للدستور من أجله، أو صهر اعتقل البلاد لضمان مستقبله. والحقيقة أنَّهما لو وجدا لما تردَّدت في إبعادهما عن الدولة ومواقعها».
وأضاف شهاب: «كان من باب الإفساد والفساد تصوير قصر الرئاسة وكأنَّه مقرُّ التقاعد لمن يتعاقبون على منصب قائد الجيش أو الرتبة العسكرية التالية لهؤلاء. كان الترويج لهذه الوليمة يهدف إلى إضعاف الجيش والرئاسة معاً. ومؤسف أنَّ هناك من لم يتمكنوا من ضبط لعابهم فتمَّ استضعافُهم وإضعاف الجمهورية عبرهم. آلمني أنْ أسمعَ أنَّ لبنانيين ينقّبون في النفايات عما يمكن أن يسدوا به جوعهم. وأنَّ رغيف الجندي مهدد، وأنَّ مؤسسته على وشك التصدع. ولهذا أريد أن أعتذر للشعب اللبناني عما فعله الجنرالات في القصر».
قال عون إنَّه لا يقبل أن يخاطبَ على هذا النحو، وأنَّه قد يضطر إلى الانسحاب من الجلسة. حدجه شمعون بنظرة قاسية وتناول الكلام. قال: «أعرف أنَّك كنت شمعونياً صافياً قبل أن تسقطَ في الإعجاب المفرط ببشير الجميل. وهذا ليس غريباً. لكنَّني أودُّ أن أسأل عمَّا فعلته أنت بإرث بشير نفسه وبالقيمين على خطه. أريد أن أسألَك: هل صحيح أنَّ العملة اللبنانية تسجل في عهدك انهياراً مروعاً توّج السطو على مدخرات المواطنين في المصارف؟ هل صحيح أنَّ الناس يترحَّمون على عهد الميليشيات من فرط انحسار هيبة الدولة في عهدك؟ وهل صحيح أنَّك دخلت القصر لتطبيق (اتفاق مار مخايل) مع (حزب الله) وأنَّك تضرب عرض الحائط باتفاق الطائف المكرس في الدستور اللبناني؟ وهل صحيح أنَّك ساهمت في إضعاف الدولة للوصول إلى القصر، وحين وصلت لم تعثر إلا على عجوز منهكة فدفعتها نحو نعشها؟ وكيف تقبل أن يتغيَّر وجهُ لبنان، وأن يتحوَّل جزيرة ويخسر صداقاتِه وفرص اللقمة الكريمة لأبنائه؟ وماذا ينفع الإنسان لو ربح صهره وخسر نفسه؟».
ارتبك عون وقال إنَّ الإرث كان صعباً وثقيلاً ولمَّح إلى سياسة رفيق الحريري فاندلعت ملاسنة بينه وبين إلياس الهراوي. وسمع الأخير يقول بلهجة زحلاوية: «اتهموا إميل لحود بالسباحة لكنَّك تفوَّقت عليه. لقد سبحت من ضفة بشير الجميل إلى ضفة حسن نصر الله، وتسببت في انقلاب الداخل وانهيار العلاقات مع الخارج».
سادَ هرجٌ ومرجٌ. تدخل بشير الجميل بلهجة ناشفة وبدا عون مرتبكاً. قال الجميل: «أفهم أن تكونَ غير قادر، لكن لا أفهم أن يحمل الانهيار توقيعك. كيف تقبل أن تدفنَ الدولة في عهدك؟ وأن يلقي لبنانيون بأنفسهم في قوارب الموت؟ وأن يجتمع الفقر والذل على شعب يتيم؟ وكيف يمكن أن يصبحَ لبنان بلا مستشفى متطور وجامعة حديثة وبلا محكمة وبلا شرطي؟».
وجد عون صعوبة في العثور على إجابات. ثم طرح الجميل عليه السؤال الصعب: «هل صحيح ما قاله إيلي حبيقة في ذكرياته أنَّك كنت شريكه في «الاتفاق الثلاثي» الذي رعته دمشق وهندسته؟ وهل صحيح أنَّ حلمك اقتصر على دخول القصر وحين سقط في يدك وجدته مسموماً بعدما دفعت ضريبة الوصول عالية؟».
شعر بشارة الخوري أنَّ جلسة التشاور تكاد تتحوَّل جلسة محاكمة. طالب اللبنانيين بعدم الاحتفال بذكرى الاستقلال هذا العام. تمنَّى على عون الاعتذار من المواطنين في ذكرى الاستقلال لا أن يذكرهم بالإنجازات، وفي طليعتها التدقيق الجنائي الذي يشبه دواءً وصل بعد وفاة المريض. وقبل مغادرة الجنرال عائداً إلى بعبدا شوهد العلم اللبناني يتسلَّل مسرعاً ليلقي بنفسه في أحد «قوارب الموت» المغادرة من سواحل طرابلس.