الجلاوزة (أعلاه) هم جهاز الرقابة في الإذاعة العراقية، والوصف أطلقه عالم الاجتماع العراقي الكبير الدكتور علي الوردي، حين قدم كتابه النفيس «وعاظ السلاطين» مسجلاً بصوته في حلقات للإذاعة حتى تبثه، لكن هذا الجهاز أثبت أنه خلاف جميع أجهزة الرقابة على الضمير، يمتلك حساً عبقرياً، لذلك تنبه إلى خطورة هذا الكتاب وأثره على الساحة الفكرية والاجتماعية في العراق، وأنه نذير شؤم لنسيج متصل ومتشابك من العلاقات بين رجال الدين النافذين، والسلطة، وطبقة المثقفين الأرستقراطيين الذين كان يضيق بهم البلاط.
علي الوردي، أصيب بالخيبة بعد منع بث كتابه في الإذاعة، سنة 1954، وأطلق الوصف الغاضب على جهاز الرقابة المذعور: «الجلاوزة»، دون أن ينتبه إلى أنهم كانوا يمارسون فعلاً واجباً في الدفاع عن آخر حصون التحالف بين المثقف الديني خصوصاً والسلطة. وعلى نحو العموم بين المثقف الأوسع وبين منظومة المنافع التي يقتات منها. من الخطأ التصور أن هذا الزلزال/ الكتاب الذي عصف بالقناعات اليقينية التي خدرت الناس وشلت إحساسهم بالحياة عبر الخطاب الوعظي الأفلاطوني، الخارج عن سياق الطبيعة البشرية، الذي يوظف الدين لتكبيل الناس وسلب حريتهم وتقييد إرادتهم، وسوقهم جبراً نحو الطاعة والخنوع؛ إن هذا الكتاب ما كان موجهاً فقط لرجال الدين، بل هو صرخة أعلى دوياً في وجه المثقفين المزيفين المشغولين بلي الحقائق وتزوير الوقائع وتزييف الوعي، والإسهام في صنع التفاهة والمحتوى الهابط والهزيل.
علي الوردي في هذا الكتاب أيضاً يخاطب الإنسان العادي، لكي يتحرر من سطوة رجال الدين، ويتخلص من هيمنة نسقهم الخطابي القائم على ترسيخ الإذعان وتخدير العقل، وصرفه عن بناء الحضارة الإنسانية، والتمتع بنعيمها عبر سرديات مشحونة بالوعظ والإنشاء والاستعلاء وتحقير الشخصية. وأن يُعمل العقل النقدي خصوصاً فيما يصله من التاريخ، ومحاكمة أحداثه وشخصياته، مع إبقاء ذلك التاريخ في تابوته المدفون دون السماح أن ينبعث من جديد لكي يفسد الحاضر ويدمر المستقبل.
الوردي كان يرى الخيرية في الإنسان، مطلق الإنسان، وأن الشر طارئ، على عكس خطاب الوعاظ الذي ينظر إلى البشر ككتلة من خطايا، يقول الوردي: «إن النزاع بين البشر ليس نزاعاً بين الخير والشر كما يتوهم الوعاظ. إنما هو بالأحرى نزاع بين اعتبارين مختلفين للخير»، ويقول: «والغريب أن الواعظين أنفسهم لا يتعبون النصائح التي ينادون بها. فهم يقولون للناس: نظفوا قلوبكم من أدران الحسد والشهوة والأنانية، بينما نجدهم أحياناً من أكثر الناس حسداً وشهوة وأنانية».
لعل هذا الكتاب هو أهم ما كتبه علي الوردي، ولذلك تصدى له الجلاوزة، في الإذاعة، كما تصدى له رجال الدين الذين شاهدوا بنيانهم ينهد من القواعد، حين باغتهم هذا النقد الجارف الذي فضح علاقات المصلحة التي تورطوا بها، وساهمت في فساد الوعي الديني الذي ظل عاجزاً بتلك الأدوات النسقية والوعظية من أن ينتج مجتمعاً متقدماً متصالحاً مع عصره، منسجماً مع الطبيعة الإنسانية. يروي علي الوردي في هذا الكتاب، هذه القصة: «يحكى في الأمثال: أن رجلاً أخذ ذئباً فجعل يَعِظَهُ ويقول له: إياك وأخذ أغنام الناس لئلا تُعاقب! والذئب يقول: خفف يا أخي واختصر فهناك قطيع من الغنم أخشى أن يفوتني»… وهو يسوق هذا المثل لمن يريد أن يعظ إنساناً بأمر يخالف طبيعته التي جبل عليها.
كتابٌ بهذا المستوى النقدي، كيف يمكن لأولئك «الجلاوزة» المثقفين أن يمنحوه تصريحاً بالنشر؟