تداعيات أزمة الطاقة الصينية على الاقتصاد العالمي
بدأت إرهاصات أزمة الطاقة في الصين بداية من الصيف، لكنها تفاقمت بحدة الشهر الماضي وبصورة غير مسبوقة، حيث تسببت في انقطاع الكهرباء بشكل حاد، ليس في المنازل والمصانع فقط، بل وفي الشوارع والطرقات أيضاً، الأمر الذي أجبر المقاطعات الشمالية الشرقية للصين على قطع الكهرباء بصورة مفاجئة عن الأحياء السكنية.
كما أجبرت المصانع على التحول نحو تخفيض ساعات وأيام العمل ووضع جداول إنتاجية مخفضة تتماشى مع كميات الطاقة المتاحة للتشغيل. وأعلن مسؤولون في مقاطعة قوانغدونغ، أكبر مركز تصنيع، بأن ما يقرب من 150 ألف شركة تضررت من نقص الطاقة الشهر الماضي، وأن بعضاً من المصانع كثيفة استخدام الطاقة طُلب منها الإيقاف الكلي لعمليات الإنتاج.
سلط انقطاع التيار الكهربائي المفاجئ الضوء على نقاط الضعف والمشاكل الهيكلية التي يعانيها قطاع الطاقة والاقتصاد في الصين، حيث أدت محاولات إنعاش الاقتصاد بعد أزمة كورونا واعتماد سياسات مركزية تهدف إلى زيادة كبيرة بمعدلات النمو إلى استمرار الاعتماد المفرط على الفحم، على الرغم من ارتفاع أسعاره، وهو الأمر الذي يبرز ضعف التنسيق بين السياسات الاقتصادية المركزية وسياسات قطاع الطاقة.
وتسببت عمليات الإنعاش الاقتصادي في معظم الدول الصناعية الكبرى في تنام غير مسبوق في الطلب على مصادر الطاقة وارتفاع أسعارها العالمية، وهو ما امتد إلى أسعار الفحم أيضاً.
وما زاد من الاعتماد على الفحم في الصين وتأجيج المشكلة، هو حالة الجفاف التي ضربت جنوب غربي البلاد وتسببت في خفض إنتاج الطاقة الكهرومائية، التي كانت تحل جزئيا محل الفحم.
علاوة على ذلك، تبنت الصين هدف التحكم المزدوج لحماية البيئة الوطنية، والذي يتعلق بخفض استهلاك الطاقة لكل وحدة من الناتج المحلي الإجمالي (المعروف باسم كثافة الطاقة)، وقد قطعت أشواطا مهمة خلال الفترة 2015-2020، وتهدف حالياً إلى خفض كثافة الطاقة بنسبة 13.5% بحلول عام 2025، وخفض انبعاثات الكربون لكل وحدة من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 18%، بهدف خفض إجمالي انبعاثات الكربون بحلول عام 2030.
ما يقرب من 150 ألف شركة تضررت من نقص الطاقة الشهر الماضي
وتحقيقا لهذه الغاية، تقوم الدولة بقمع إنتاج الفحم، الذي لا يزال يولد حوالي ثلثي احتياجات محطات الكهرباء، وذلك من خلال إغلاق المناجم الصغيرة وغير الفعالة وفرض قيود على الإنتاج، ما أدى إلى انخفاض الإنتاج وارتفاع الأسعار. مشكلة الطاقة في الصين لم يتسبب بها ارتفاع الأسعار العالمية والاستراتيجية الوطنية لخفض الانبعاثات وحسب، بل لها جذور هيكلية في قطاع الطاقة الصيني، حيث تشتري محطات الطاقة الفحم بسعر السوق، ولكن لا يُسمح لها برفع أسعار الكهرباء على العملاء بما يتجاوز الهوامش الصغيرة التي حددها المخططون المركزيون، ومن المنطقي أنه في حال ارتفاع أسعار الفحم تتوقف المحطات عن إنتاج الكهرباء جزئيا أو كليا تحت ذرائع الصيانة في محاولة للتملص من الخسائر.
ووفقاً لتعبير لي شو، كبير مستشاري السياسة العالمية في غرين بيس شرق آسيا: “لن يولد أحد الطاقة ليخسر المزيد من الأموال، لأنهم يعلمون أنهم لا يحرقون الفحم فحسب، بل يحرقون الأموال أيضًا”، وقوله “إن هذا الانفصال بين أسعار الفحم القائمة على السوق وأسعار الطاقة المنظمة هو أحد أعراض قطاع الطاقة الصيني الذي عفا عليه الزمن”، “وإن هذا الخلل الهيكلي لقطاع الطاقة وانعدام مرونة السوق هو الذي أجبر المقاطعات الشمالية الشرقية على قطع التيار الكهربائي بشكل مفاجئ لتجنب انهيار الشبكة”.
عموماً وأياً كانت الأسباب الكامنة وراء الأزمة، فالحقيقة الواقعة أن هناك سوء تخطيط صينياً سواء على المستوى المركزي أو حتى على مستوى المقاطعات بالتركيز على رفع معدلات النمو مع الفشل في توفير احتياجات ذلك النمو من الطاقة، وأن رهان قطاع الطاقة في الصين على استمرار وأمان التدفق من محطات الفحم أثبتت الأزمة زيفه إلى حد كبير.
كما أن الحقيقة الراسخة أيضاً تكمن في كون تضرر النمو الصيني جراء الأزمة قد يؤثر سلبياً على سلاسل الإمداد والتوريد العالمية والتي لم تستعد كامل عافيتها بعد أزمة كورونا، ولا تزال تكافح من أجل التعافي والانتعاش. وهو ما عبر عنه لويس كويجس، كبير الاقتصاديين الآسيويين في أكسفورد إيكونوميكس قائلاً “إذا استمر نقص الكهرباء وخفض الإنتاج، فقد يصبحان عاملاً آخر يتسبب في مشاكل للعرض العالمي، خاصة إذا بدأوا في التأثير على إنتاج منتجات التصدير”.
ولذلك، فإن الاستعراض السريع لقوائم المتضررين يشير إلى أنها تضم داخليا المنتجين الصغار في السوق الصيني الذين لا يستطيعون تحمل كلفة المولدات الكهربائية ولم يتمكنوا من تلبية تعهداتهم الإنتاجية المتعاقد عليها، لذا من المتوقع إفلاسهم، كما سيحاول كبار المصنعين تعويض كلفة استئجار المولدات وتباطؤ إنتاجهم، وبالتالي قلة السلع التي يتم تصديرها بشكل عام، ما يعني محاولتهم نقل هذه التكاليف إلى المستهلكين حول العالم في صورة ارتفاع للأسعار.
الصين تستهدف خفض انبعاثات الكربون لكل وحدة من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 18%
ويدعم ذلك تفشي حالة واسعة من عدم اليقين حول أرقام النمو الصيني للربع الثالث، مقارنة بالتوسع الحاد بنسبة 7.9% في الربع الثاني، حيث راوحت التوقعات في استطلاع أجرته بلومبيرغ ما بين 5.8% و4.5%.
وبالتالي يبدو أن هناك موجة تضخمية أخرى واسعة النطاق للمنتجات الصناعية، كنتيجة للمشاركة العميقة للصين في سلاسل التوريد العالمية. فعلى الرغم من محاولات الحكومة المركزية الصينية وتدخلاتها المتسارعة لحل الأزمة، والتي جعلت بيوت الخبرة تشير إلى أن جزءا فقط من الأزمة قد ينتهي قريبا، فإن قيود استخدام الطاقة على الصناعات الأكثر كثافة في استخدام الطاقة، مثل الصلب والألمنيوم والإسمنت، ستستمر لأشهر، وستواصل الصين استهداف واردات الغاز الطبيعي بقوة، وهو ما يزيد من ضغوط الأسعار العالمية عليها وعلى أسعار هذه السلع. أما خارجيا، فلن يكون من المستغرب أن يتضرر مصدرو مدخلات الإنتاج إلى الصين، وفي مقدمتهم كوريا الجنوبية وتايوان، وكذلك سيتضرر مصدرو المعادن، مثل أستراليا وغينيا وتشيلي، كما سيتضرر الشركاء التجاريون الرئيسيون مثل ألمانيا.
أعطت العولمة العديد من المزايا للإنسان حول العالم، حيث حسنت جودة الحياة من خلال التمكن من الحصول على السلع الأرخص والأكثر جودة ومن أي مكان في العالم، لكن الأزمات التي تضرب العالم أخيراً أكدت أن النظام العالمي بحاجة إلى التغيير، وربما تكون تجزئة المصنع الصيني الضخم أحد مستهدفات ذلك التغيير.