يشكل سؤال الهوية مرتكزا أساسيا للصراع في أغلب أعمال الروائي السوري الكردي جان دوست، فهو يعتبر أن إحدى مهامه كمبدع البحث عن حلول جمالية ترد الاعتبار لقضية مهمشة تواطأ كثيرون ضدها هي قضية الأكراد. في ظلال هذا الصراع جاءت روايته «كوباني» مثل صرخة ضد الدم والمجازر، أما أحدث رواياته «مخطوط بطرسبرغ» فتقتفي أثر مخطوط حقيقي يلقي الضوء على تاريخ مسكوت عنه للأكراد عبر دهاليز التاريخ ومسارات الجغرافيا. هنا حوار معه حول هذه القضايا وكتاباته التي تمزج بين الثقافتين الكردية والعربية.
> في روايتك الأخيرة «مخطوط بطرسبرغ»، يبحث الراوي في إحدى المكتبات بمدينة موسكو عن مخطوط بالكردية لكاتب مجهول… فاتحاً أفق السرد على عالم الأكراد في القرن التاسع عشر… هل هو نص عن التاريخ أم الحنين والهوية؟ ألا ترى أن فكرة البحث أو العثور على مخطوط نادر أصبحت مستهلكة؟
– أعتبر هذا العمل محاولة للخوض في التاريخ الذي رسم للكُرد أقدارهم السوداء. وظل يحاصرهم ويلاحقهم حتى جردهم من عباءة الحرية. في هذه الرواية يمكن الاهتداء إلى بعض الخيوط التي تؤدي بالقارئ إلى العثور على العلة الكامنة التي جعلت الكرد خارج التاريخ.
صحيح أن فكرة البحث عن مخطوط أو كتاب غابر أصبحت ثيمة أثيرة لدى العديد من مشاهير الرواية في العالم، إلا أن روايتي تتحدث عن مخطوط حقيقي ضاع أثره، مخطوط جمع بين دفتيه جزءاً مهماً من التاريخ الكردي. ربما تتقاطع بعض الأفكار وأساليب السرد بين رواية وأخرى، لكنني في الحقيقة لست مهتماً بالسير وراء «الموضة الأدبية». علاقتي بالتاريخ علاقة قديمة، وقد كتبت أولى رواياتي الشعرية وأنا شاب صغير وكانت رواية تنهل من التاريخ.
> في روايتك «عشيق المترجم»، بدا للبعض أنك متأثر بأجواء رواية إليف شافاك الشهيرة «قواعد العشق الأربعون»، كيف ترى الأمر؟
– أرى الأمر مختلفا كلياً. «عشيق المترجم» رواية لا تشبه «قواعد العشق» إطلاقا، ربما كانت روايتي «ميرنامه» أقرب إلى رواية إليف شافاك المذكورة، فبينهما خطوط مشتركة كثيرة، وللعلم صدرت «ميرنامه» قبل صدور «قواعد العشق الأربعون».
> وصفت كتابة روايتك «كوباني» التي تتناول مأساة تلك المدينة السورية على يد «تنظيم داعش» بأنها كانت حتمية، وإلا لكان البديل الانتحار أو الجنون… هل تعتبر الكتابة نوعاً من أنواع العلاج النفسي للمؤلف أحياناً؟
– بعد معركة «كوباني» وما تلاها من مأساة النزوح ثم خراب المدينة بعد تحريرها ثم المجزرة، رأيت أنني بحاجة إلى صرخة عالية أفرغ بها كل الغضب والحزن الذي أحاط بي وأنا أشاهد مدينتي تتعرض لكل ذلك المحو. جاءت تلك الصرخة على شكل رواية من خمسمائة صفحة. وبالفعل شعرت براحة عميقة بعد أن كتبت آخر كلمة في الرواية. الكتابة نوع من العلاج الروحي. هذا صحيح. كما أنها تحرير للعقل الباطن الذي يسبب بقاؤه سجيناً مقيداً آلاماً نفسية عميقة.
> لكن بدا صادماً للبعض في تلك الرواية وصفك للإرهابي الداعشي بأنه ضحية… كيف ترى الأمر؟
– هناك فئة انضمت إلى «داعش» مدفوعة بغيرتها على الدين. لم تميز هذه الفئة حقيقة هذا التنظيم الإرهابي الأسود. شخصية الداعشي زياد في رواية كوباني تنتمي إلى هذه الفئة. وقد فصلت في خلفية هذه الشخصية، وكيف أن العنف المنزلي وغياب التربية الصحيحة منذ الطفولة تخلق تشوهات كبيرة في النفس تستغلها المنظمات المتطرفة لصالحها، إذ تجذب أصحاب الأرواح المهزوزة إليها بسهولة.
> بعد كتابة أربع روايات بالكردية اتجهت للكتابة باللغة العربية… كيف كانت المبررات؟
– المبررات كتبتها في مقدمة رواية «دم على المئذنة»، وعموما أنا أتقن العربية تماماً مثل لغتي الكردية، بل ربما أكثر منها، فهي تجذبني بقوة إلى ملكوتها الواسع، لكنني كنت أصدها، أقاوم إغراءها الكبير خشية الغرق في لذائذ عمقها اللانهائي. اللغة العربية حسناء خارقة الجمال تراودني عن نفسي وتسحرني بفتنتها. كلما اشتد علي الكرب وشعرت بعجز لغتي في التعبير عن النار التي تتقد بين ضلوعي، لكن لغتي الكردية التي شغفت بها وعملت على النبش في طبقاتها تلالها والغوص في أعماقها كانت تمنعني كل مرة من الافتتان بالعربية والوقوع في أحابيلها فأصدها وأكبت ما بداخلي في أتون قلبي. لقد وقعت في حقل جاذبية لغتين مختلفتين، إحداهما لغة أبي وأمي وإخوتي وأترابي في ملاعب الطفولة وعلى مقاعد الدرس، لغة أول فتاة أحببتها، لغة قلبي وأحلامي وكوابيسي وهذياناتي ورواياتي وأشعاري. والثانية لغة كتبي الأولى ويومي الأول في المدرسة، لغة ديني وقرآني الذي كانت أمي تتنسم بحروفه المقدسة البلسم والشفاء، لغة الكتب التي عجت بها مكتبة جدي وأعمامي وأبي الشيخ فكانت أول ما تراه عيناي في هذه الدنيا من كائنات ورقية. كان السؤال الذي يؤرقني هو ماذا أفعل بمخزوني من هذه اللغة الفاتنة، الضرة القوية للغتي؟ ماذا أصنع بما تراكم لدي من عشرات آلاف الجمل والعبارات التي ترسبت في قاع خيالي مثل مياه جوفية تننظر أن تشق طريقاً للأعلى لتنفجر كينبوع مقدس؟ ألا أخونها وأخون من يتكلم ويقرأ بها حين أضن بما عندي من فيضها وأحبسها في قعر الذاكرة العميق؟
> هذا الخيار جعل بعض المثقفين الأكراد يتهمونك بخيانة قوميتك حين «تنكرت» – على حد تعبيرهم – للكتابة بالكردية و«فضلت» العربية عليها؟
– الفكر القومي الضيق لا يمكن أن يأتي بمعرفة حقيقية. ولا ينتج عنه سوى الانغلاق على الذات والمزيد من التقوقع الذي يمنع أي تقدم. واللغة ليست سوى وسيلة للتعبير تماماً مثل العزف. يمكن للعازف أن يختار الآلة التي تناسبه. وبطبيعة الحال لم أتنكر للغتي بل ما زلت أكتب بها وأعتبر الكتابة بها قضية مركزية لحماية الذات والأنا المهددة. كنت أكتب بالعربية كتبي البحثية وترجماتي، لكني نأيت بنفسي عن الإبداع بالعربية أي كتابة الشعر والرواية وأي جنس أدبي آخر. لم أفعل شيئا سوى أنني وسعت الأفق الذي كنت أرنو إليه، وصار مجال الرؤية عندي أكبر.
> ما الفرق بين إبداعك بالكردية ونظيره بالعربية؟
هناك فرق بلا شك من ناحية القاموس والمفردات والخيال والتراكيب والمنابع التي أنهل منها. لكني – وأقولها بفخر – نجحت في توليد مناخات روائية خاصة هي مزيج خيالين كردي وعربي، مزيج ثقافتين ولغتين وفضاءين معرفيين مختلفين. ما جرى لي أشبه بعملية تطعيم الأشجار التي يقوم بها مزارع خبير، وتأتي النتيجة على شكل أشجار تثمر أنواعاً عديدة من الثمار.
> على ضوء ذلك كيف ترى سؤال «الهوية»؟ وهل تعيش أحياناً نوعاً من الصراع معه، ككردي يكتب بالعربية ويعيش مغترباً في ألمانيا منذ نحو عشرين عاماً؟
– بالنسبة لي فإن سؤال الهوية محوري جداً سواء في حياتي أو كتاباتي. فأنا ابن هوية مسحوقة مهمشة تكافح منذ قرون في سبيل الحرية. ولعل أغلب رواياتي تتمحور حول هذه القضية الجوهرية. فأنا مهتم جداً بمعرفة إشكالات الهوية الكردية التي أريد لها أن تبقى هوية دنيا في كل دولة يعيش فيها قسم من الشعب الكردي. صحيح أن السياسة تدخلت وطغى البعد السياسي على الكفاح الكردي الذي هو في الأصل إنساني، لكن يبقى أن الكرد يستحقون التمتع مع جيرانهم في التاريخ والجغرافيا بشمس الحرية. لقد كان يؤرقني سؤال الهوية منذ البداية فلجأت إلى التاريخ لعلي أحظى بأجوبة شافية. كتبت عدة روايات تتكئ على التاريخ الكردي البعيد والقريب لأحيط بإشكاليات الهوية الكردية المتنحية عن المشهد العام.
لكن، وبعيداً عن موضوع الكفاح والنضال القومي أرى أن تعدد الهويات أمر فيه ثراء وحيوية وقرب من النزعة الإنسانية أكثر من الاكتفاء بهوية واحدة والدوران حولها. يجب أن نشيع روح التسامح والمحبة وننبذ الكراهية، وهذا ما فعلته في «عشيق المترجم» و«ميرنامه» و«نواقيس روما» وغيرها.
> هناك تحول في مسيرتك رافق الشعر بداياتك ثم وقعت في غرام الرواية… هل بريق الرواية وفرص الشهرة والانتشار والجوائز وراء ذلك التحول؟
– لم أكن بعيداً عن الرواية حتى في بداياتي. كتبت في التاسعة عشرة ملحمة شعرية من ألف وثمانمائة بيت شعري. وهي رواية في الأصل لكنها مكتوبة شعراً بوزن وقافية. نالت ملحمتي الشعرية تلك شهرة كبيرة، لكني لم ألتفت إلى كتابة المزيد من القصص والروايات، واتجهت إلى الترجمة والبحث الأدبي. ثم كتبت أولى رواياتي في نهاية التسعينيات وصدرت في 2004 باللغة الكردية حيث لا جوائز. لقد استنفدت اللغة الشعرية ووجدت أنها لا تكفيني. مناخات الشعر لم تعد ترضي غروري، فكان لا بد من البحث عن جنس أدبي آخر أبسط من خلاله أفكاري وقناعاتي. صدرت روايتي الأولى وأنا في عمر الأربعين تقريباً. وشعرت أن لدي تراكماً في المعلومات والأفكار والرؤى لا يمكن أن يبقى الشعر حامله الأساسي، ولا بد من لغة نثرية تستوعب الحمولة الثقيلة.
> أخيراً… كيف ترى تفاعل النقاد مع تجربتك وإبداعك؟
– النقد العربي يعاني آفة الدوران في فلك المكرس. هناك أسماء تم تكريسها لأسباب عدة. وهناك نقد (شللي) فالكاتب له شلته من النقاد الذين يحتفون بأعماله ويسعون إلى تكريس اسمه ولا يقتربون من عوالم الكتاب الآخرين. والنقد الذي أعنيه هنا هو ما يتم نشره من مقالات انطباعية تحتفي بصدور الرواية وتكتب «تقريظاً» صحافياً تحت اسم النقد. إنه نقد استهلاكي إن صحت العبارة.
أما النقد الحقيقي، الأكاديمي، والذي يحفر في طبقات النص سعياً لاكتشاف العوالم السرية فهو نادر جداً. بالنسبة لي سعيد بأن رواياتي بدأت تلفت أنظار الأكاديميين العرب بسبب ما يجدون فيه من موضوعات تهم أزمة الهوية وعلاقاتها بالهويات المجاورة. هذا الأدب الكردي المكتوب بالعربية «الأدب العربفوني» يستحق اهتماماً أكبر في خضم الصراعات السياسية الكبرى الحالية. فالكرد جيران العرب ومصيرهم مشترك وتربط بعضهم ببعض أواصر تاريخية قوية ولم يشهد التاريخ حروباً عربية كردية.