منذ قراءة الإهداء الذي يتصدر مجموعة «قبور صغيرة» للشاعر السوري ماهر شرف الدين، «إلى خيمة النايلون التي حاولت كل ما بوسعها»، يتلمس القارئ شعرية شفيفة لم تجرحها فجاجة الواقع السوري، خصوصاً تتبع قصائده لخطوات النازحين الذين اقتلعوا من أرضهم إلى مخيمات بعضها عشوائي لا إنساني كما فعل النزوح نفسه.
لكن الخيمة ليست فاجعة السوري الوحيدة، إذ تدور القصائد حول التهجير والاقتلاع من المكان، ورحلات اللجوء وغرق البعض في مياه البحر المتوسط في محاولة البحث عن مكان آمن.
يستعيد شرف الدين ضحايا الغارات تحت ركام الأبنية في الأحياء السكنية والأسواق، حيث تتدلى يدٌ بين حجارة انهارت فوق ساكنيها. ويرى قبوراً حفرت سريعاً ووضعت فوقها شواهد من «الورق المقوى». ولا ينسى أبرياء آخرين خرجوا في مظاهرة مسالمة فتحولوا إلى قتلى «متظاهر الأمس/ استشهد اليوم/ كفنه الأبيض/آخر لافتاته».
وبإيقاع لاهث حيث تبدو مشهدية الحالة كأنها نوع من التوثيق للحياة، والتشبث بها يستحضر الشاعر مناخات يغلب عليها تقريرية الخبر السياسي، كأنه يريد لقصيدته أن تكون منشوراً مضاداً يفضح ما تنطوي عليه هذه التقريرية من كذب وفجاجة مثل قصيدته «صور قيصر» لجثث سجناء وثقها مصور السجون وهربها للخارج، ويتخيل شرف الدين، محاولة أهاليهم في البحث عنهم بين آلاف الصور التي وضعت في العالم الافتراضي. ولا ينسى الشاعر الأماكن الضحية التي دمرتها الحرب، فتجول ثلاث قصائد في داريا والمعرة وأريحا، ناعية الخراب الذي تسبب فيه قصف وحشي للأرض والإنسان. كما تحضر رموز سورية ثورية في القصائد، يرثيها وقد رحلت عن الحياة لأسباب مختلفة، في الوطن أو في المهجر، مثل منشد الثورة عبد الباسط الساروت، وشريكته في المظاهرات والإنشاد فدوى سليمان، ولا ينسى الفنانة مي سكاف التي لم يسعفها قلبها الصمود بعيداً.
يثبت ماهر شرف الدين في مجموعته الثامنة، ومن مهجره البعيد في الولايات المتحدة، أنه قريب روحياً وذهنياً بروح شعر ليوثق بشعرية رهيفة ما مر على سوريا خلال عشر سنوات من مجازر متفردة في القرن الحادي والعشرين،، متلافياً الوقوع في مطب المباشرة وهو يحكي عن مأساة كبرى، إلا ما ندر من مقاطع. لكن يعكس ضمير الشعراء في الأحداث التاريخية الكبرى، وكيف يظل حياً ببصيرة كفؤة تستعيد الأحداث إبداعياً وتحميها من الضياع في النسيان.
من أجوان الديوان، يقول في قصيدة «طريق التهجير المزدحم»:
«ثقيلة حقائبهمْ
كأنما مُلِئَتْ بالحجارة
وفراشُ الإسفنج الخفيف
الذي حَشَروه بينها
كان ثقيلاً أيضاً
ونظراتهم الأخيرة
لبيوتهم وهم يُغادرونها
كانت ثقيلة
حتى إنها عَلِقَتْ هناك
فتركوها وغادروا