«خيمة»… هي أمنية العام الجديد، كررتها الطفلة شهد (10 أعوام) من مخيم النازحين في ريف إدلب الشمالي، بعد أن مزقت الرياح والأمطار الغزيرة خيمة أسرتها، وتمنى سامر (11 عاماً) الخلاص من طين المخيم ومتابعة دراسته كي يغدو طبيباً يداوي جراح الناس، في حين كانت أمنية لارا (8 أعوام) من مدينة حلب، العيش في أي بلد غير سوريا، فيه أمان ومدارس وألعاب، ودمعت عينا عصام (9 أعوام) وهو يتمنى خروج والده وأخويه من السجن كي تتغير حياته…
أمنيات بسيطة تفطر القلب، تطلقها أفواه صغيرة منهكة وجائعة، طحنت حيواتها وأحلامَها رحى حرب يعمل أصحابها كي تكون بلا أفق وأكثر فتكاً وتدميراً.
تقول تقارير الأمم المتحدة إن الأزمة السورية هي من أكبر الأزمات والتحديات التي واجهتها في التاريخ الحديث، وتقول أرقامها إن الأطفال هم الفئة الأكثر تضرراً وتعرضاً للأذى والمعاناة في حرب مديدة لم تحرمهم فقط براءتهم، بل أطاحت بأبسط حقوقهم، في الحماية والنماء والصحة والتعليم.
لن يحمل عام 2022 فرصة آمنة لحياة ملايين الأطفال السوريين. كثيرون منهم لا يزالون معرضين للموت، سواء في مناطق سيطرة النظام بسبب التشرد وتردي الخدمات الطبية وعدم قدرة الأسر الفقيرة على تحمل مستلزمات عيشهم أو ثمن الدواء وتكاليف العلاج للمرضى منهم، أو في مخيمات النزوح بسبب عدم كفاية المساعدات الإنسانية التي ما فتئت تتراجع، أو نتيجة غضب الطبيعة وانهيار أنظمة الرعاية الصحية بأكملها وتفشي أمراض كانت منسية بين الأطفال، يحدوها شح الحصول على اللقاحات المعتادة.
تعددت الأسباب والموت واحد… ثمة آلاف من الأطفال السوريين قتلوا بسبب القصف والأسلحة الفتاكة أو المحرمة دولياً، فيما قضى آلاف آخرون في المناطق المحاصرة جوعاً وكمداً، ومثلهم تم اعتقالهم لفترات متفاوتة بسبب مشاركتهم العفوية في المظاهرات أو للضغط على أفراد أسرهم الفارين، ومات مئات منهم تحت التعذيب أو لتردي شروط الحياة في المعتقلات، كما ذهب أكثر من هذا العدد من الصغار، وبعضهم لا تزيد أعمارهم على 10 سنوات، وقوداً في معارك الكبار، قتلوا أو تعرضوا للتشويه والإعاقة، بعد أن تم تجنيدهم قسراً من قبل مختلف الأطراف والجماعات المسلحة.
يعاني أكثر من نصف الأطفال السوريين اليوم من عدم توفر الحد الأدنى من الأمان والكفاية الغذائية، ثمة غلاء فاحش وتدهور مريع في شروط العيش، كما أن الحرب شردت ملايين منهم بين نازحين داخل البلاد ولاجئين في بلدان الجوار… مئات الآلاف باتوا منفصلين عن ذويهم وفريسة القهر واليتم والحرمان، يبحثون عن مأوى وعما يسدّ رمقهم، وعشرات الآلاف منهم، الأوفر حظاً، يعيشون مع جدهم أو جدتهم وقد فقدوا غالبية أفراد عائلاتهم، وغيرهم ولدوا خارج البلاد، ولا يمتلك ذووهم الوثائق الكفيلة بتسجيلهم وإثبات نسبهم وجنسيتهم.
يحل العام الجديد، ولا يزال ملايين الأطفال السوريين محرومين من حقهم في التعليم ومتابعة الدراسة، مرة أولى، نتيجة تدمير مدارسهم، بشكل مقصود أو بطريقة عشوائية… ثمة مدرسة من بين ثلاث لم يعد بالإمكان استخدامها اليوم لأنها دمرت أو تضررت بشكل كبير، أو لأن بعضها تم تحويله إلى ملجأ يؤوي إلى الآن عائلات نازحة، أو يستخدم كمشفى أو كموقع عسكري، ومرة ثانية، لأنه يتعذر على كثير منهم ارتياد المدارس، إما لعدم توفر الأوراق والشهادات الرسمية بسبب احتراقها أو فقدانها تحت ركام البيوت المدمرة، وإما لغياب الأمان وتضرر البنى التحتية وطرق المواصلات، وخاصة للأطفال المقيمين في القرى، وللفتيات الأكثر تعرضاً للتحرش والخطف والاغتصاب، وتتفاقم هذه المشكلة في المناطق التي أعادت الدولة السيطرة عليها حيث لا توجد مدارس كافية، ولا عدد مناسب من المدرسين، وقد جنّد غالبيتهم في الحرب أو هربوا طلباً للأمان بعد أن تعرضوا للتهديد، بينما فرضت الجماعات الإسلاموية في مناطق سيطرتها مناهج دينية خاصة، الويل والثبور وعظائم الأمور لمن يتجرأ ويتجاوزها!
صحيح أن لا أحد يمكنه أن يشكك في أن التعليم حق أساسي وحاجة ملحة لتنمية إدراك الأطفال ومعارفهم، لكن الصحيح أيضاً أن الحرب فرضت على هؤلاء الصغار معادلة جديدة هي أولوية العيش والبقاء على قيد الحياة ولو كان على حساب التعليم وغيره.
«يجب أن أطعم أمي وإخوتي» هو رد حاسم أعلنه خالد (12 عاماً) في جوابه عن سؤال حول مدرسته، ومثله كثيرون الذين عانوا من فقدان العائل لموت أو اعتقال أو إصابة أو بسبب التفكك الأسري، واضطروا من أجل إعالة أنفسهم وعائلاتهم إلى الانخراط في أعمال وضيعة وأحياناً شاقة لا تناسب أعمارهم، سواء في المخابز والمطاعم أو مواقع البناء وورشات تصليح السيارات، أو كبائعين جوالين في الشوارع، معرضين أنفسهم لشتى أنواع الاستغلال الجسدي والنفسي والجنسي.
هو مشهد بات مألوفاً أن ترى اليوم في غالبية المدن السورية أو في مناطق الهجرة والنزوح، أطفالاً سوريين لا تتعدى أعمارهم العاشرة، إما يتسولون بإذلال أو يجوبون الشوارع والمناطق السكنية، يبيعون علب المحارم أو ربطات الخبز أو يمسحون زجاج السيارات أو يجمعون بقايا الطعام وعلب البلاستيك من أكوام القمامة، وترى فتيات سوريات صغيرات أجبرتهن الفاقة والحاجة على العمل خادمات في البيوت لقاء إقامة وأجر زهيد، لتغدو أجسادهن الغضة ضحية التحرش الجنسي والاغتصاب، وربما أقلهن سوءاً من تزوجن بسن مبكرة، وهن كثيرات، من دون اهتمام بآثار ذلك على صحتهن النفسية والجسدية.
والأسوأ هو الاضطرابات السلوكية ونوازع الاستهتار والعدوانية التي شاعت بين الأطفال السوريين جراء الفقد والقهر واليتم والعوز الشديد، وجعلتهم فريسة سهلة للارتباط بعوالم الجريمة على أنواعها ولتسعير الأنشطة الممنوعة كالمخدرات ودعارة الأطفال حتى تجارة الأعضاء البشرية، الأمر الذي بدأت تتكشف بعض صوره المؤسفة والمؤلمة في مختلف أماكن عيشهم، داخل البلاد وخارجها.
«لا تنسونا» هو شعار الدمية العملاقة «أمل» التي تجسد طفلة سورية تبحث عن أمها، بدأت منذ شهور رحلتها نحو العواصم الغربية، وصولاً إلى برلين وباريس ولندن، لعلها تلفت أنظار حكومات العالم وشعوبه، وتذكرهم بواجباتهم تجاه شدة ما يكابده أطفال يشبهون أطفالهم، ويستحقون مثلهم مستقبلاً وحياة آمنة.