تعرفت على الكاتب والمفكر جميل مطر أوائل السبعينات، حين جاء مع الأستاذ محمد حسنين هيكل إلى «دار النهار» من أجل نشر كتاب لهيكل قمت أنا بترجمته. كانت صفة مطر يومها «رئيس مركز الأبحاث في الأهرام»، وهو عمل لم نكن قد عرفناه في الصحافة اللبنانية بعد.
كان ينضم إلى جلسات هيكل في «النهار» الرئيس شارل حلو. وكان شعورنا أن الرئيس المحب للكلام سوف يهزم هيكل، ولن يترك له السطوة على الجلسة. لكننا كنا جميعاً على خطأ، وبالكاد تسنى للرئيس الفائق الثقافة والصحافي السابق أن يمرر تحية «كيف الحال».
كان انطباعي عن جميل مطر أنه أكاديمي صامت يصغي ويدوّن ويقرأ ويكتب كل ما لديه «للأستاذ». وذهب في ولائه لمهمته أنه امتنع عن الكتابة لسنوات طويلة حين اكتشف فيه العالم العربي كاتباً ومثقفاً ودبلوماسياً من درجات رفيعة.
وارتبطت كتابات مطر كلها بصورته باحثاً سياسياً جدياً لا يؤمن إلّا بالمعلومات والحقائق وعملية التحليل. وبقيت متابعاً له في «الشروق»، حيث هو أيضاً رئيس قسم الرأي، غير أنني لاحظت في الآونة الأخيرة، أن مقاله الأسبوعي يتنقل من السياسة والفكر إلى القصة القصيرة والذكريات الرومانسية إلى «يا فؤادي – لا تسل أين الهوى». وتكرر ذلك. وكنوع من أنواع الحماية الشخصية لجأ إلى أسلوب نشأ بين حواء وسيدنا آدم، فأصبح يحرص على ذكر زوجته في الوقائع والشهود، من باب الدفاع عن النفس وإثبات البراءة.
إنها «متلازمة العمر» ولها أعراض. وأحد هذه الأعراض فقدان الوقار. عندما تجد أن كاتباً زاد من نسب الأحداث إلى سواه، وأكثر من ذكر الزمن الجميل، فأعرف أن المنسوب إليه هو الناسب وأن «الزمن الجميل» هو المضارع، والماضي تمويه على تقاسيم «لملمتُ ذكرى لقاء الأمس بالهدب».
المفاجأة الكبرى في لائحة المشتبهين الأعزاء، حقاً مفاجأة. فالزميل العزيز «عديل» للزعيم ياسر عرفات. بمعنى أن الرئيس الفلسطيني كان متزوجاً فلسطين وهو متزوج شقيقتها. وعلى اليمين، ما كتب مرة عن شيء آخر. ولذلك بدا لزملائه وأصدقائه أنه محصّن ضد «متلازمة العمر»، وصروف الدهر وأهوال القهر، ولن نراه يوماً في لعبة الكذب الفاضل وشهود العذاب، وإبعاد الشبهات.
تخطى الزميل بكر عويضة الجميع مرة واحدة. ذهب إلى جمال عبد الناصر كي يصل إلى أم كلثوم، ووصل إلى أم كلثوم كي يصل إلى «أنت عمري»، أجمل ما غنت، وربما أجمل ما غنى، متوقفاً عند «وانت معايا يصعب علي – رمشة عيني ولا حتى ثانية – يصعب علي ليغيب جمالك – ويغيب دلالك ولو شوية».
يستخدم الأميركيون مَثل «أوقف الإكثار من مشاهدة التلفزيون، في تحذير سامعهم من أنه أخذ يفقد توازن الواقع ويضرب في الخيال. وإنني أهيب بالزملاء الأعزاء الذين دخلوا، أو قاربوا دخول «المتلازمة العمرية»، التي تعيد مفكراً مثل جميل مطر إلى حكايات زمن الحب، أن يتذكروا قول الجماعة الأميركان:
– don’t watch too much television… خليكم على «الهوى غلّاب»!
سوسن الأبطح:التعليم فشل
لم يعطِ «التعليم عن بعد»، النتائج المرجوة، وفي الدول الفقيرة، بشكل خاص، جاءت الحصيلة مدمرة. كل المديح الذي كيل للتعليم الإلكتروني، ذهب هباء الريح، بعد التقارير الأممية المتعددة، التي تحدثت عن أرقام مخيّبة. «شيء واحد نعرفه على وجه اليقين، هو أن موجة أخرى من إغلاق المدارس على نطاق واسع، ستكون آثاره كارثية على الأطفال… المدارس يجب أن تكون آخر موقع يتم إغلاقه وأول مكان يُعاد فتحه»، هذا ما قالته المديرة التنفيذية لمنظمة «يونيسف» هانرييتا فور. وهو ما يفسر إصرار وزراء التعليم جميعهم، حتى في أكثر المناطق تضرراً من تسونامي «أوميكرون»، على إبقاء التعليم حضورياً، رغم الغضب الشديد من الأهل والأساتذة معاً. وكانت المدارس العام الماضي، أول ما يتم إغلاقه على اعتبار أن الأطفال ينقلون العدوى بدون أعراض، ويمكنهم أن يتسببوا في قتل الكبار، لكن كل ذلك لم يعد مهماً، بعد أن ظهرت النتائج، وأحصيت الخسائر.
تبين أن غالبية ساحقة من الأطفال في نهاية المرحلة الابتدائية، أصبحت عاجزة عن قراءة نص بسيط، في دول منخفضة أو متوسطة الدخل. الرياضيات والقراءة، هما نقطتا الضعف الكبرى. والصغار أسوأ حالاً من الكبار. لا شك في أن السنة الفائتة كانت لمئات ملايين التلاميذ، مجرد هدرٍ للوقت. المستوى التعليمي تدنى، في العالم كله، وتكبّد البشر خسائر فادحة. فالعلاقة وثيقة بين التعليم والاقتصاد، لهذا يقول تقرير للبنك الدولي إن الخسارة العالمية، لإغلاق المدارس، بلغت 17 تريليون دولار، من الأرباح المحتملة على مدى الحياة، كان يمكن أن يحققها هؤلاء الأطفال، لو تمكنوا من تحصيل المعارف كما يجب.
وزراء التربية يحاولون حلّ مشكلة فيقعون في أخرى. في فرنسا ودول أوروبية غيرها، تم اعتماد الفحوصات المكثفة للتلامذة، ومتابعة الحالات كلما اكتشفت في صف، لتجنيب الباقين الوباء. أُنهك صغار الفرنسيين من الكمامات، وكثرة الفحوصات، وطالت طوابيرُ الانتظار أمام مراكز الاختبارات. صفوف تُفتح وأخرى تُغلق، امتحانات تؤجل، معلمون يستشيطون، وفوضى تستفحل. تم تخفيف التدابير، للمرة الثالثة منذ بداية العام، ومع ذلك ما لا يقل عن 10 آلاف صف كانت قد أغلقت في وقت واحد، بسبب كثافة الإصابات.
إسرائيل تباهت بأنها سبقت الأمم بالتطعيم والحماية، وتفاءلت باستعادة اقتصادها نشاطه، نقيب المعلمين هناك ران إيريز، يصف نظام التعليم بأنه «يعيش حالة من الفوضى الشاملة، ليس لها مثيل من قبل، حتى في أحلك الظروف». المدارس والجامعات الأميركية، في وضع مضطرب للغاية في بعض الولايات، كتب أستاذ: «إن (أوميكرون) يجعل التعليم يجثو على ركبتيه». ويتساءل زملاء له «كيف يمكنك ان تشرح درساً جديداً، وثلث تلامذتك مرضى في بيوتهم»؟ هذا حال المعلمين في كل مكان. مع تزايد الحالات، يغيب فوج عن الصف ليعود آخر. والأسوأ حين يطيح الفيروس الأساتذة أنفسهم بالجملة والموظفين معهم. في الدول الفقيرة، تضيف إلى ما سبق رداءة الإنترنت، وعدم توفر الأجهزة، خلال فترة التعليم عن بُعد، استتبعه تسرب مدرسي، وفي أحسن الأحوال تأخر تعليمي، قد يصبح تعويضه من المستحيلات.
فرضت الضرورة «التعليم عن بُعد»، قبل أن ينضج، وتسخّر له مناهج تتكيف معه، فجاء مضجراً ثقيلاً، يبعث على النعاس. وحين فرض التعليم حضورياً، كانت الجائحة قد أصبحت أقل خطراً، لكنها أوسع انتشاراً، والمرضى أكثر عدداً. في أميركا تجاوز عدد الحالات الجديدة المليون في يوم واحد، وفي فرنسا الثلاثمائة ألف، وينتظر أن يصيب الداء نصف الأوروبيين خلال الشهرين المقبلين، مما يعني أن الموجة الجديدة لم تبلغ ذروتها بعد.
أطفال العالم وشبابه، على مشارف إنهاء عامين خضعوا خلالهما لتجاريب تربوية متسرعة. «تسببت الجائحة في أكبر خسارة في رأس المال البشري في الذاكرة الحية، وأسوأ أزمة تعليمية منذ قرن»، هذا كلام رئيس مجموعة البنك الدولي ديفيد مالباس، الذي يعرف بعمق خطورة الأزمة. الفيروس يملي مع كل موجة شروطاً جديدة، وهو يغير ملامحه وأعراضه، وليس على الإنسان سوى الاجتهاد للتكيف، فيصيب أو يخيب، ما يعرّض مئات ملايين الأطفال، لمخاطر الإخفاق، وفقدان فرص مستقبلية.
طفل دخل الصف الأول عام 2019 يصل للصف الثالث ولم يعرف حياة دراسية تؤمن له الحد الأدنى من الانتظام. طالب شاءت الصدف أن يبدأ دراسته الجامعية مع الوباء، قد يتخرج قبل أن يعرف معنى التجربة.
لم يكن التعليم بخير قبل الوباء. الهوة تتسع بسرعة بين واقع يتغير بلمح البرق، ومناهج تتكيف ببطء السلحفاة. هذه ليست معضلة الفقراء وحدهم، وإن كان حالهم أصعب؛ اذ لم تتمكن المليارات التي صرفت لتطوير النظم التعليمية في الدول النامية من إنقاذ الوضع. بين الإهمال والفساد وسوء التدبير، ضاعت المساعدات، وضاع جيل كامل. في العامين الماضيين فقط أنفق البنك الدولي أكثر من 11 مليار دولار لدعم التعليم في الدول النامية، لكن الفجوة بين الفقراء والأغنياء استفحلت.
الهيئات الدولية تقرّ بأن التعليم على ما هو عليه اليوم، وصل إلى فشل. ثمة دعوة من «اليونسكو» لإعادة التفكير في المدرسة بشكل مختلف، من حيث الهندسة، والمساحات والأوقات، والجداول الزمنية، ومجموعات الطلاب. «إعادة تصور مستقبلنا معاً» هي المبادرة الأممية المفتوحة، التي تدعو الجميع من شباب ومعلمين ومجتمع مدني، وشركات وحكومات، وكل من يهمه الأمر، لتقديم تصوراتهم، لما يمكن أن يصبح عليه التعلم والتعليم.
لـ«كورونا» منافع، ومن بينها الاعتراف أخيراً أن «المدرسة التقليدية»، في الوباء ومن دونه، آن لها أن تتغير جذرياً، شكلاً ومضموناً.