قبل شهور قليلة على نهاية العام الماضي، صدر للروائي والكاتب السوري – الألماني رفيق شامي، كتاب جديد تحت عنوان «برجي الفلكي قوس قزح» عن «دار هانزر» الألمانية العريقة، وضم الكتاب قصصاً قصيرة تناولت مواضيع الحياة والمنفى من زاوية جديدة ومختلفة في تناولها لهموم وآمال وآلام المهاجرين والمنفيين القسريين، مضيئة جوانب مهمة وزوايا جديدة في حيواتهم وعلاقتهم بأوطانهم الجديدة.
في هذه المجموعة، كما في أعماله السابقة مثل «صوفيا» و«الجانب المظلم للحب» و«سر الخطاط الدفين»، يأخذ شامي، كما قال أحد النقاد في مجلة «دي تسايت» الأسبوعية الشهيرة، «بيدنا إلى عوالمه ونحن قراؤه نتبعه وقلبنا مليء بالدهشة».
في القصة الأولى، التي منحت الكتاب عنوانه، يبحث بطل القصة عن اليوم الحقيقي لولادته بسبب إلحاح صديقته انطوانيت المشغولة جداً بتأثير الأبراج الفلكية التي تعرف كل تفاصيلها، لأن أمها خياطة مشهورة في الحي المسيحي في دمشق، اعتادت أن تضع في غرفة الاستقبال الجرائد والمجلات لكي تتسلى السيدات بتمضية وقت الانتظار الذي يطول أحياناً. وكانت انطوانيت تتنصت على السيدات وهن يقرأن المجلات بما فيها الصفحة الأخيرة، حيث الأبراج والكلمات المتقاطعة ومواد أخرى للتسلية.
وتصر انطوانيت ذات الأربعة عشر عاماً على معرفة برج بطل القصة الذي لم يتجاوز الثانية عشرة، والذي يعشق انطوانيت الجميلة ويخشى دوماً أخاها جبران، (الغوريلا الوحيد الناطق بالعربية، كما يسميه).
ولد بطل القصة عام 1946 في سنة استقلال سوريا من الاستعمار الفرنسي، لكن في أي يوم؟ تصر والدته على أنه ولد في شهر مارس (آذار) يوم تفتحت أزهار شجرة المشمش في ساحة الدار، ولكن والده ينفي ذلك، ويؤكد له أنه ولد في أواسط أبريل (نيسان) حيث كان على فرنسا أن تغادر البلد، وماطلت وأطلقت النار على المتظاهرين. وكان المشمش بحجم حبة الحمص، وإذا لم يصدقه فليسأل جدته (فهي تمتلك ذاكرة تجعل الجمل يصفر وجهه حسداً). الجدة تؤكد حالفة بالصليب المقدس أن بطل القصة ولد في 15 سبتمبر (أيلول) في معلولا بعد نهار من عيد الصليب الشهير، وسمعها تسميه: عمه يوسف.
ولماذا سجل في دفتر العائلة يوم 23 يونيو (حزيران)؟ يسأل البطل والده عندما رأى دفتر العائلة الصادر عن دائرة تسجيل النفوس في دمشق، وهنا يضيف والده له أنه تأخر كثيراً في تسجيله وكاد يعاقب لولا ورقة العشر ليرات التي وضعها في دفتر العائلة (وطارت كطائر السنونو بدون أي ضجيج إلى درج الموظف – ذي رائحة الفم النتنة التي تقتل الذباب على بعد ذراع – الذي كتب تاريخاً عشوائياً لتاريخ ولادته).
قصص تثير الضحك حتى البكاء. يقول رفيق شامي في إحدى مقابلاته: «أعتقد أن الضحك أفضل مهرب للأفكار. هناك العديد من القصص التي تضحك حتى البكاء»، كما في قصة حائك سجاد إيراني يريد الاشتراك بمسابقة في ألمانيا، ويطرد لطلب المشتركين الأميركان ذلك، فيعود الرجل بثياب جديدة وشعر مستعار أشقر، ويشترك في المسابقة، ويفوز على الأميركي. وهناك قصة الرجل الطيب المتقاعد موريس الذي يشعر بعزلة في قرية ألمانية بعد وفاة زوجته ماتيلدا التي أحبها طوال عمره. لكنه يبدأ بالتجوال بعد ذلك ويكتشف عوالم لا تبعد سوى مسافة بسيطة عن قريته التي سكنها مجبراً بعد حصوله على وظيفة مهمة.
وفي إحدى جولاته يتعرف موريس على رجل كهل من نيجيريا يسكن مع عدة لاجئين في بيت كبير قديم يقع في المنطقة الفقيرة من مدينة صغيرة قريبة. ويتفاهم موريس مع الرجل عبر اللغة الإنجليزية التي يتقنها ويدعو اللاجئ إلى وجبة صغيرة في مقهى إيطالي صغير. بعدها يدعوه الأفريقي لزيارته. ويحزم موريس حقيبته ويودع الجيران اللامبالين ويوضح لهم أنه سيسافر لأسبوع إلى نيجيريا، الجيران ينظرون إليه بحسد واضح… ويظل موريس أسبوعاً لدى النيجيري في بيته الكئيب، مستمعاً وحنينه لوطنه ثم يعود ويحكي للجيران كل ما «رآه وعاشه» في نيجيريا. وهكذا يرحل موريس أسبوعياً إلى أفغانستان، سوريا، فلسطين، كولومبيا، إثيوبيا.. وغيرها من بلدان اللاجئين ليعود مشبعاً بالكثير من ثقافة تلك البلدان أكثر من أي سائح ممن يسافرون إلى تلك البلدان، ويعودون بعد أسابيع دون أن يفهموا شيئاً من ثقافة شعوبها. يدعو موريس كل اللاجئين القاطنين في ذاك البيت لزيارته ويحتفلون معاً، مما يغيظ الجيران ويزداد حقدهم ضد هذا الرجل النبيل، الذي يموت في نهاية القصة وحيداً، بعد ترحيل اللاجئين إلى أوطانهم وبيع البيت الكبير لشركة مقاولات.
ومن أهم قصص الكتاب تلك عن الاغتراب النفسي بين زوجين سوريين – كما وبين امرأة ألمانية وزوجها السوري – الذي يصيب أغلب المهاجرين في المجتمع الجديد، وكذلك قصة رجل سوري يريد تقليد الألمان الذين يحتفلون عادة بمرور عشر سنوات أو 15 سنة مع زملائهم على نيلهم الشهادة الثانوية في نهاية حياتهم المدرسية. وشيئاً فشيئاً يظهر للقارئ أن بطل القصة يحتفل مع أشباح ماضيه في دمشق.
ولا يبالغ الكاتب في وصفه للقصص بأنها أفلام بدون شاشة، وفعلاً القصص مصممة على شكل أفلام يراها القراء بأعينهم الداخلية.
والشيء الجميل في هذا الكتاب الذي قسمه رفيق شامي إلى ستة فصول، هي الرحلات بكل أنواعها، سواء سفراً أو خيالاً عبر القراءة، وعلاقة الإنسان بالحيوانات، والأسرار وضروراتها لشخصية الإنسان، والحنين بكل أنواعه، والميلاد والموت، والضحك بكل أنواعه. وهو ينهي كل فصل بمقال مختصر تحليلي نظري، سياسي، نفسي واجتماعي عن الموضوع.
هو يقول في أحد مقالاته إن «الأدب الجيد يستطيع أن يُساهم في خلق عالم أجمل وأفضل، ولكن هذا لا يحدث إلا ببطء وعلى الأمد البعيد: أنا أريد قبل كل شيء أن أروي قصصاً جيدة وأجعل قرائي يستمتعون بها، وحين أنجح في أن أُصور لهم الحياة في دمشق بمصداقية فعندها أكون من أسعد السعداء».
ولد رفيق شامي عام 1946 في دمشق لأسرة آرامية، واسمه الحقيقي سهيل فاضل. درس الكيمياء والرياضيات والفيزياء في جامعة دمشق. وأسس في عام 1966 الصحيفة الجدارية الأدبية النقدية «المُنْطلق» التي حُظِرَتْ في عام 1970، وفي العام نفسه اضطر لمغادرة سوريا هرباً من الخدمة العسكرية، و«الحياة تحت الرقابة» بحقيبة مليئة بكتاباته عن طريق لبنان إلى مدينة هايدِلبِرغ الألمانية، حيث تعلم اللغة الألمانية وتابع دراسته وحصل في عام 1979 على درجة الدكتوراه في الكيمياء.
غير أن قلبه بقي معلقاً بقصص وحكايات وطنه سوريا، بالشوارع والروائح إبان طفولته في الحي المسيحي بدمشق (باب شرقي وباب توما)، وهو ما جعله يعود من خلال قصصه إلى هذه الأماكن، التي لم يعد يستطيع زيارتها منذ خمسين سنة… لكنه يعود مع مئات الآلاف من قرائه الذين صاروا عبر قصصه، مثل بطل قصته موريس، يعرفون دمشق ومعلولا أكثر من السياح.