كانت عقارب الساعة تقترب من تمام الخامسة فجر الثاني والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) 1982 عندما رنّ جرس الهاتف قرب سرير غابرييل غارسيّا ماركيز في منزله بالعاصمة المكسيكية ليبلغه أمين سر الأكاديمية السويدية بنيله جائزة نوبل للآداب التي كانت «تحصيلاً حاصلاً» كما ذكر بعد ساعات صديقه اللدود ماريو فارغاس يوسا الذي حاز نفس الجائزة بعده بسنوات.
وما إن شاع الخبر حتى تهافتت عليه مكالمات التهنئة من شتّى أصقاع العالم، لكن كانت ثمّة مكالمة واحدة أثارت دهشته واستغرابه هي التي جاءته من رئيسة وزراء الهند يومذاك إنديرا غاندي، كما روى لاحقاً إلى كاتب سيرته البريطاني جيرالد مارتين.
كانت مكالمة إنديرا غاندي هي الأولى من رئيس دولة لتهنئة الكاتب الكولومبي، وأخبرته بأنها بعد قراءة رائعته «مائة عام من العزلة» منذ أيام قليلة، راحت تطارح نفسها السؤال التالي: «هل أنا المجنونة، أم أن الجنون هو السمة الغالبة على شخصيات الرواية؟»، كما ينقل كاتب سيرة ماركيز وصديقه الكولومبي لسنوات طويلة داسّو سالديفار، الذي يضيف أن رئيسة وزراء الهند أعربت لماركيز يومها عن رغبتها في لقائه والتعرّف عليه.
وشاءت الأقدار أن ذلك اللقاء تمّ بعد أشهر من تلك المكالمة في نيودلهي إبّان انعقاد القمة السابعة لحركة بلدان عدم الانحياز التي كان والد نهرو، والد إنديرا، من مؤسسيها. وكان من بين المشاركين في تلك القمة الزعيم الكوبي فيديل كاسترو الذي قبل مغادرته هافانا اتصلّ بماركيز الذي كان يومها في باريس، وطلب إليه أن يحزم حقائبه ويستعدّ لمرافقته في عداد الوفد الرسمي الكوبي.
رحّب ماركيز بدعوة فيديل وانضمّ إلى الوفد، لكن بعد أن هبطت الطائرة في مطار نيودلهي، فضّل غابو أن يبقى داخلها ويراقب من وراء النافذة مراسم استقبال الوفد الرسمي الذي كان يرأسه فيديل، عندما فوجئ برئيسة وزراء الهند تدخل بنفسها إلى الطائرة مستفسرةً باللغة الفرنسية عن مكان وجود غارسيّا ماركيز الذي قال لصديقه الروائي سانتياغو غامبوا بعد سنوات إن هالة تلك المرأة سحرته، وإنه رأى فيها نساء مسقط رأسه وشخصيات «مائة عام من العزلة» في آراكاتاكا.
وبعد ثلاثة أيام في ضيافة إنديرا غاندي دعت رئيسة وزراء الهند ماركيز إلى زيارة بلادها، لكن في صباح اليوم الأخير من أكتوبر من ذلك العام سقطت غاندي صريعة زخّات من الرصاص أطلقها عليها اثنان من حرّاسها السيخ، وأُصيب ماركيز بصدمة عميقة يومها «لكن اسمها بقي محفوراً في ذاكرتي، رديفاً للنور والشجاعة» كما ذكر في إحدى جلساته مع جيرالد مارتين.
بعد وفاة ماركيز في عام 2014 التي سبقتها أشهر طويلة كان مصاباً خلالها بمرض آلزهايمر وعاجزاً حتى عن التعرّف على زوجته وأفراد عائلته، بدأ السرّ الكبير يدور في خفر على ألسنة الأصدقاء المقرّبين: غابو له ابنة سرّية!
يقول داسّو سالديفار إن أحد المقرّبين جداً من ماركيز أطلعه على صورة له محتضناً ابنته إنديرا، ويتساءل: مَن هذه الطفلة التي تحدّق في لمعان عينَي هذا الرجل الخريفي؟ إنها صورة الأب الرؤوف والحنون أمام طفلته الصغيرة، الطفلة المكسيكية التي تحمل اسم إنديرا، ابنة الكاتبة والصحافية سوزانا كاتو، التي كانت السرّ العميق في خوابي أشهر كتّاب أميركا اللاتينية. ويضيف سالديفار في حديث مع الصحافي غوستافو تاتيس غيرّا الذي اتفق كاتبا سيرة ماركيز بالإسبانية والإنجليزية على أن يكون هو الذي يكشف السر: «تلك الابتسامة على وجه غابو محتضناً صغيرته لن أنساها مهما عشت». ويقول غيرّا إن الرأي استقرّ على أن يكون هو الذي يتولّى الخبر في صيغة تليق بحقيقة هذا السر وملابساته، «وبعيداً عن شراهة وسائل الإعلام التي تتهافت على جيف الفضائح الرخيصة».
ويذكر غيرّا في المقالة المطوّلة التي نشرتها صحيفة «أونيفرسال»، أنه أكّد الخبر مع أصدقاء العائلة الذين حافظوا سنوات على السر، ولم يجرؤ أي منهم، بمن فيهم ولداه غونزالو ورودريغو، على ذكره، من باب الاحترام لزوجته مرسيديس والوفاء لغابو.
ومما لا شك فيه أن كشف هذا السر والملابسات التي كانت تحيط به سيزيد من الهالة الواسعة التي هي فوق صورة هذا العبقري الأدبي الذي أصبح منذ سنوات فوق الخير والشر، ويرسّخ البعد الإنساني الذي رصّع مسيرته. وكيف لا نستحضر أمام هذا الخبر قصة الشاعر التشيلي بابلو نيرودا الذي أنكر ابنته من زوجته الأولى، ثم أهملها لأنها كانت مصابة بمرض وراثي قضى عليها وهي بعد في الثانية عشرة؟
في حديث له مع كاتب سيرته بالإنجليزية جيرالد مارتين، قال ماركيز: «لكل منّا حيوات ثلاث: العامّة، والخاصة، والسرّية»، وإن حياته العامة هي في متناول الجميع، وإنه من حين لآخر سيكشف له بعض جوانب حياته الخاصة، لكنه لن يحدّثه أبداً عن حياته السرّية. لكن ماركيز، القاصّ البارع، كان مولعاً أيضاً بزرع الألغام والألغاز في سيرته الذاتية، وكان من الصعب جداً في معظم الأحيان التمييز بين ما هو واقعي منها وما هو متخيّل. وإضافة إلى إعجابه الشديد بالقصص الخرافية الصينية، درج على سرد نفس الوقائع بصيغ متعددة يختلف بعضها عن بعض لكن في كل منها جزء من الحقيقة.
سُئل غارسيّا ماركيز مرة إذا كان يرغب في تكرار حياته لو أُتيحت له الفرصة لذلك، فأجاب: «أعود وأكرّر كل ما فعلته باستثناء أمرين: لا أغادر كولومبيا وأُرزَق بطفلة». وعندما سئل عن الاسم الذي يحب أن يطلقه عليها، قال: «فيرجينيا، تيّمناً بالكاتبة فيرجينيا وولف».
تعيش إنديرا كاتو، ابنة ماركيز، في المنزل الذي أهداها إياه والدها في العاصمة المكسيكية، وهي منتجة سينمائية ناجحة وملتزمة الدفاع عن المجموعات الضعيفة، وفازت بجوائز كثيرة عن أفلام وثائقية أنتجتها وشاركت في كتابتها.
ويقول أحد أصدقاء العائلة: «الحديث عن إنديرا كان بمثابة الإبحار في مياه مجهولة، في حياة خاصة حصّنتها الأسرة بحرص شديد، وسعت دائماً إلى تحييد الطفلة عن الثرثرة والإشاعات. حافظنا على هذا السر طيلة سنوات عديدة، وكنا ننتظر الوقت المناسب والصيغة التي تليق به لنكشفه».
ولا يشكّ أحد من أصدقاء ماركيز في أنه عندما أطلق على ابنته اسم إنديرا كانت ذكرى رئيسة وزراء الهند حاضرة بقوة في ذهنه. ويقول داسّو سالديفار الذي شاهدها مرات عدة مع غابو إنها «ورثت عن أبيها الحاجبين الكثّين، والنظرة العميقة التي تعبر الأشياء بمجرّد التحديق فيها».