أنفق كارلوس غصن، المواطن اللبناني الفرنسي والرئيس التنفيذي السابق لتحالف شركتي نيسان ورينو للسيارات، ملايين الدولارات لتجنُّب محاكمته في اليابان بسبب المخالفات المالية. وهرب من البلاد، وهو ما زال على ذمة القضية بعد إطلاق سراحه بكفالة، عن طريق دفع أموالٍ لفريق متخصص من خبراء الأمن؛ لتهريبه إلى خارج البلاد على متن طائرة خاصة.
وبرَّر غصن هروبه من العدالة اليابانية بتصوير نفسه على أنَّه ضحية «التحيز الواضح». وقال إنَّ النظام القانوني الياباني «غير نزيه»، وإنَّه تعرَّض لمعاملةٍ «تكيل بمكيالين»، لأنَّه شخصٌ أجنبي. وأكَّد أنَّ زملاءه في شركة نيسان تواطأوا مع ممثلي الادعاء العام لإطاحته، لأنَّهم كانوا يخشون أنَّ شركة رينو الفرنسية ستبتلع نظيرتها اليابانية نيسان. وشبَّه اعتقاله بالهجوم الغادر على بيرل هاربر.
وهذه ادِّعاءات خطرة ومبالِغة. فنادراً ما نجد رجلاً واحداً، حتى لو كان أحد أقوى أباطرة العالم، يُشبِّه نفسه بدولةٍ استُفِزَّت لتدخل الحرب.
وصحيحٌ أنَّ النظام القضائي الياباني معيب، لكنَّ قصة غصن تُمثِّل أكثر من مجرد توضيح لسلبيات هذا النظام. فالتعيينُ النادر لمهندسٍ أجنبي على رأس إدارة شركةٍ يابانية عظيمة بدا كأنَّه علامة على أنَّ الأوضاع تتغيَّر باليابان. وفي الواقع، كان غصن ضحيةً لغطرسته بقدر ما كان ضحيةً لإخفاقه في إدراك مدى تغيُّر اليابان.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ ممثلي الادعاء اليابانيين يهتمون اهتماماً أكبر من اللازم بالحصول على اعترافات المتهمين. لكنَّ قدرتهم على سجن شخصٍ ما، فتراتٍ طويلة، دون تهمة محددة تزيد احتمالية أن تكون الاعترافات غير طوعيةٍ ولا دقيقة. إذ يبلغ معدل إدانة المتهمين في اليابان 99%، وهي نسبةٌ مرتفعة جداً لدرجة أنَّها مثيرة للشك، لا سيما أنَّ الإدانات غالباً ما تستند إلى اعترافات. وهنا صُدِم غصن، الذي اعتاد معاملتَه باحترامٍ مبالَغ فيه، باحتجازه واستجوابه ساعاتٍ طويلة وحرمانه من الاتصال بأفراد أسرته. إذ قال متحدثاً عن ذلك: «لقد أُخرِجت بوحشيةٍ من عالمي الذي كنت أعرفه».
فهل تعرَّض غصن لهذه المعاملة الصارمة الخاصة لأنَّه كان أجنبياً في اليابان؟ ربما يكون هذا سبباً إلى حدٍّ ما. وكذلك كانت هناك توترات تجارية بين نيسان ورينو، وربما بالتبعية بين اليابان وفرنسا. ولا شكَّ في أنَّ غصن كان لديه منافسون داخل نيسان، ربما أرادوا إسقاطه. ولكن هناك أسباب تدعو إلى الشكِّ في ادِّعاء غصن أنَّ النزعة اليابانية إلى كراهية الأجانب كانت السبب الرئيسي لسقوطه من النعمة التي كان غارقاً فيها. وربما يكون هناك تفسير أجدر بالتصديق.
فغصن كان شخصاً استثنائياً للغاية في اليابان. إذ استطاع إنقاذ نيسان من الانهيار في عام 1999، وحقَّق نجاحاً يفوق التوقعات. وهذا التحوُّل الذي أحدثه في نيسان جعله شخصية مشهورة تحظى باحتفاءٍ كبير أينما ذهبت، حتى إنَّه وصل إلى مكانةٍ أسطورية حين ظهر كشخصيةٍ بطولية في قصةٍ يابانية مصوَّرة بعنوان The True Life of Carlos Ghosn أو «الحياة الحقيقية لكارلوس غصن». لكنَّ المشكلة أنَّه بدأ يتصرف كشخصٍ خارق مثل الشخصيات التي تظهر في القصص المصوَّرة. وهذا خطأ لا يُغتفر في اليابان.
إذ يحب اليابانيون إخفاء القوة والسُّلطة خلف ستارٍ سميك من الأخلاقيات المتواضعة، والتشاور مع الزملاء، والتسلسلات الهرمية لإعطاء الأوامر، ومراكز المسؤولية المنتشرة. لذا كثيراً ما يكون من الصعب للغاية معرفة هوية الشخص المسؤول فعلياً في الشركات اليابانية أو الحكومة. وحتى في ظل النظام العسكري الياباني شبه الفاشي بالأربعينيات من القرن الماضي، لم يكن هناك قائدٌ يتصرف كدكتاتور، ولا حتى رئيس الوزراء هيديكي توجو -الذي حاول الأمريكيون تصويره كذباً على أنَّه هتلر الياباني- ولا الإمبراطور هيروهيتو بالتأكيد.
وصحيحٌ أنَّ بعض الشخصيات القوية النافذة بالشركات اليابانية أو في السياسة اليابانية قد تتورَّط أحياناً في فسادٍ أسوأ من الجرائم المُتهم بها غصن، لكنَّ ذلك يحدث خلف الأبواب المغلقة في طي الكتمان. إذ يجري تبادل المناصب المُربِحة والمكافآت المالية الأخرى مقابل مصالح سياسية، لكنَّ هذه المعاملات تجري سراً بين رجالٍ مجهولي الهوية يرتدون حُلَّات داكنة بعيداً عن الأنظار العامة.
وهنا ارتكب غصن خطأً كبيراً باستعراض ثروته ونفوذه استعراضاً علنياً متباهياً، إذ كان يستقل طائراتٍ خاصة إلى منازل فخمة في جميع أنحاء العالم، واستأجر قصر فرساي لإقامة حفل زفافه. وكذلك تحدَّى ثقافة الشركات اليابانية في نيسان بتغيير النظام التقليدي المتمثل في تمييز الأقدمية ووضع نظامٍ جديد يعتمد على تمييز الجدارة ويُكافئ الإنجازات الكبيرة -وضمن ذلك إنجازات غصن نفسه- بمكافآت إضافية سخية. لذا كان غصن يتقاضى استحقاقاتٍ مالية أكبر بكثير من رؤساء الشركات اليابانية الآخرين، وهذا الأمر وحده جعله شخصاً دخيلاً بينهم.
ويمكنني هنا أن أتذكر سابقتين على الأقل قد توضِّحان الجوانب الكاملة لسقوط غصن: إحداهما تتمثل في قصة صعود هيروماسا إيزوي، الذي كان رجل أعمال يابانياً استثنائياً، وسقوطه. بدأ إيزوي، الذي كان شخصية متحمسة من خلفيةٍ اجتماعية متواضعة، أعماله بشركة إعلانات ومجلة للوظائف الخالية، في الستينيات من القرن الماضي. ثم نمت شركته لتصبح إمبراطورية في مجال الأعمال تحمل اسم Recruit. ولكن على الرغم من ثروته التي كانت جديدة آنذاك، لم يستطع إيزوي اختراق الشبكة المعقدة من رجال الأعمال وأفراد النخبة السياسية الأقدم منه في اليابان. لذا حاول شقَّ طريقه بالرشوة، عن طريق إعطاء بعض الساسة والمسؤولين الحكوميين والمديرين التنفيذيين جميع أنواع الصفقات المُغرية التي كانت تُبرم سراً بالطبع.
لكنَّ فضيحة شركة Recruit تكشَّفت في عام 1989. إذ بدأت الصحافة تنشر تقارير عن سلوكيات إيزوي السرية. فقرَّر ممثلو الادعاء العام التصرُّف بحماستهم المعتادة. واعتقلت السلطات اليابانية إيزوي، الذي سقط ساحباً معه نوبورو تاكيشيتا -رئيس الوزراء الياباني آنذاك- وأعضاء مجلس الوزراء الذين استفادوا من سخائه. غير أنَّ المشكلة لم تكن حجم الفساد نفسه، الذي لم يسبق له مثيل آنذاك؛ بل حقيقة أنَّ شخصاً دخيلاً حاول اختراق المؤسسة عن طريق توزيع أموالٍ كثيرة للغاية بوقاحةٍ أكبر من اللازم. أي يُمكن القول إنَّ إيزوي تصرَّف كأنه يحظى بمكانةٍ أكبر من مكانته الحقيقية.
أمَّا الواقعة الأخرى، فكانت قصة كاكويه تاناكا، وهو دخيلٌ اجتماعي متحمس آخر كوَّن ثروته بمجال العقارات في السنوات الضبابية التي أعقبت الحرب والتي شهدت ازدهار أنشطة السوق السوداء والعصابات. إذ صعد تاناكا سريعاً إلى قمة الحزب الديمقراطي الليبرالي المحافظ الحاكم، وأصبح رئيساً للوزراء في عام 1972. وكان طريقه نحو ذلك ممهداً بمشروعات الإنشاءات الكُبرى، التي لم يكن الدافع إلى إقامتها هو الضرورة بقدر ما كان النفعية السياسية والرشى المالية. ومثلما فعل إيزوي، حاول تاناكا شراء ذمة المؤسسة بثروةٍ كان يتباهى بها علناً.
في حين كان تاكيو فوكودا، مُنافسه بالحزب آنذاك، عكسه تماماً؛ إذ كان سلساً ماكراً يحظى بعلاقاتٍ قوية. وعلى أي حال، فاز فوكودا بما يُسمَّى حرب كاكو-فوكو. وبدأت الشرارة الأولى لسقوط نجم تاناكا حين ظهرت مزاعم حول صفقات سرية لشراء الأراضي، بعضها أُبرِمَت باسم عشيقته، التي كانت إحدى فتيات الغيشا اليابانيات سابقاً. لذا اضطر إلى الاستقالة.
وقد يكون تاناكا مذنباً في الاتهامات التي واجهها، كما كان إيزوي، وربما مثل غصن، مع أننا لن نعرف ذلك أبداً إذا لم يُحاكَم غصن. لكنَّ السبب الرئيسي لفضيحة تاناكا كان سياسياً. إذ كانت مؤسسة الحزب المُحيطة بفوكودا تتحيَّن الفرصة لإطاحة تاناكا، لأنَّه كان يهُزُّ ثوابتَ أكثر من اللازم، ويُنفق أموالاً أكثر من اللازم.
ونظراً إلى أنَّ غصن أجنبي، فقد كان دخيلاً بدرجةٍ أكبر من إيزوي وتاناكا. لكنَّ خطاياه مشابهةٌ لخطاياهم: غطرسة المال الذي جُنِيَ وأُنفِق بتفاخر، وتحدِّي الطريقة التقليدية التي كانت الأمور تسير بها. وفي حالات سوء سلوك مديري الشركات، عادةً ما يزعم المسؤولون التنفيذيون اليابانيون أنَّهم تصرفوا لمصلحة الشركة. لكنَّ زملاء غصن السابقين يتهمونه بدسِّ أموالٍ طائلة في جيوبه، وهو ما تركه مع عددٍ قليل من المدافعين عنه.
غير أنَّ سقوط غُصن سيُسفِر عن عواقب وخيمة. إذ كان غصن يحظى باستحسانٍ لدى اليابانيين والأجانب الذين كانوا يأملون أن تتحول اليابان إلى مجتمعٍ أكثر انفتاحاً وتنوعاً. لكنَّ النزعة الانتقامية لدى النظام القضائي الياباني، والتمسُّك بالمحافظة على التقاليد في ثقافة الشركات اليابانية -وفرار غصن الاستثنائي من العدالة- كلها عوامل ستؤثِّر كثيراً في إبطاء هذا التحوُّل.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The New York Times الأمريكية.