أمام فروع الهجرة والجوازات في المحافظات السورية الخاضعة لسيطرة النظام السوري، لاستخراج جوازات سفر والهجرة خارج البلاد، في ظل موجة هجرة غير مسبوقة، من مختلف الأعمار والفئات، نتيجة تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي والأمني في البلاد، وفشل حكومات النظام المتعاقبة على مدار السنوات الماضية، في إنقاذ الوضع الاقتصادي، وتوفير سبل العيش والحياة الكريمة للمواطنين.
الأغلى والأضعف
الجواز السوري بدا الأغلى والأضعف في العالم على حد سواء، تكلفة استخراجه تتعدى ألفَيْ دولار أمريكي بشكل غير رسمي، يأخذها موظفو إدارة الهجرة أو القنصليات لتسهيل العملية، بينما يسمح لك بدخول 3 دول فقط!
يهاجر كل شهر ما يقارب 8000 سوري، بينهم الشاب والجامعي والطبيب والمهندس والصناعي وعائلاتهم، من مختلف المحافظات السورية (دمشق والسويداء ودرعا وحماة وحمص وحلب)”.
وبعد تفشَّي البطالة وتردّي الخدمات الحكومية وغياب العامل الأمني، فضلاً عن الجوع والفقر الذي يعاني منه معظم السوريين، لم يعد أمام المواطن السوري سوى الهجرة خارج البلاد للبحث عن حياة كريمة وآمنة، بـ(أي ثمن)، بحسب ما يرويه أشخاص حصلوا بعد عناء وتكاليف مادية باهظة على جوازات سفر وبانتظار الفرصة التي تسمح لهم بالهجرة، وآخرون ينتظرون دورهم في طوابير يصطف فيها الآلاف غيرهم.
ويقول أحمد (25 عاماً)، من مدينة دمشق، وحاصل على شهادة في الهندسة المدنية، إنه “تخرج في الجامعة منذ 3 أعوام، ولم يحظَ بفرصة عمل في أي مؤسسة حكومية كانت أو خاصة بأي راتب شهري، ويعاني الآن وأسرته من الفقر والجوع، ويشعر بالإحباط والمسؤولية تجاه أهله، وما قدموه من نقود كانت بحوزتهم لإكمال دراسته الجامعية وحصوله على الشهادة، وكان هذا أحد الأسباب التي أدت إلى إفقار عائلته”.
ويضيف أنه حصل مؤخراً على فرصة عمل بأحد الفنادق بدمشق (تنظيف الغرف وتقديم الخدمات للزبائن)، وأنه يشعر الآن باقتراب فرصته بالنجاة من الفقر والإذلال، مستغلاً عمله في الفندق والحصول على الإنترنت المجاني، لتأمين التواصل مع الشركات الدولية والخليجية ومجموعة من أصحابه وأقاربه في المهجر، وأنه تلقى وعوداً من بعض الأصدقاء بتأمين تكاليف السفر وفرصة عمل له في إحدى الدول الأوروبية، إلا أنه اصطدم بطابور من الناس على أبواب فرع الهجرة والجوازات بدمشق، تطلب منه الوقوف في الطابور لساعات على مدار 5 أيام.
وفي النهاية نال فرصة الدخول إلى المبنى، وتقديم أوراقه المطلوبة لاستخراج جواز السفر، وهو الآن ينتظر منذ شهر تقريباً كآلاف السوريين لاستكمال الأوراق، للحصول على الجواز بطريقة غير مستعجلة، كما خصصتها حكومة النظام بتكلفة 13 ألف ليرة سورية، وضمن مدة أقصاها أسبوع، وأنه بات الحصول على جواز السفر أشبه بحلم جميل ينتظره، ويفتح أمامه فرصاً كثيرة، وأهمها الحصول على فرصة سفر والعمل”.
بينما الشابة نادين (27 عاماً) من محافظة درعا، وهي خريجة جامعية منذ سنوات، ولم تحظَ حتى الآن بفرصة عمل جيدة، وقالت إنها “اضطرت مؤخراً لبيع خاتم ذهبي وأسورة بطلب من خطيبها الذي لجأ منذ سنوات إلى الأردن، والتقديم للحصول على جواز سفر مستعجل بتكلفة مالية 31 ألف ليرة سورية، وبسبب حالة الازدحام أمام مبنى الهجرة والجوازات لم تحصل على جواز سفر، رغم أن المدة المحددة من قبل حكومة النظام السوري للجوازات المستعجلة إصدارها في مدة أقصاها 24 ساعة”.
موظفون في الدوائر الحكومية يستغلون الأزمة
وتقول “هناك من يهمس في آذان الناس على أبواب فرع الهجرة والجوازات، من هم مقربون من المؤسسات الحكومية والأمنية، وبإمكانهم تقديم المساعدة بمقابل مادي للحصول على جواز سفر بطريقة مستعجلة عبر الوساطات، ما اضطرها إلى بيع الخاتم والأسورة وتقديم ثمنها لأحد الأشخاص، الذي يملك نفوذاً كبيراً في دائرة الهجرة، وحقق لها حلمها وحصلت مؤخراً على جواز سفر، وهي الآن بانتظار استخراج أوراق ثبوتية لشهادتها الجامعية وبعض الإجراءات القانونية للسفر إلى الأردن ولقاء خطيبها الذي أبعدته عنها الحرب منذ سنوات”.
أسامة (51 عاماً)، صاحب مشغل لصناعة الألبسة الرجالية الداخلية في مدينة حلب، قال “لم تعد تطاق الحياة في سوريا، بعد تسلط شبيحة النظام على الصناعيين والتجار، وعلاوة على ذلك تراجع الإنتاج والتصدير إلى الصفر، نتيجة تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد، واضطر عدد كبير من التجار والصناعيين مؤخراً إلى بيع منشآتهم لتوفير المال اللازم للحياة والعيش أمام الغلاء الفاحش في أسعار السلع الغذائية.
بينما آخرون قرروا الهجرة، كما هو الحال لديّ الآن، وحصلت مؤخراً على 7 جوازات سفر لي وزوجتي وأبنائي، بمبلغ وصل إلى مليون ونصف المليون ليرة سورية، عن طريق أحد السماسرة الذين لهم نفوذ واسع في مدينة حلب وطرق خارجة عن القانون في تلبية الخدمات للمواطنين في الدوائر الحكومية مقابل مبالغ مادية يجري الاتفاق عليها”.
ويضيف، “بلد لا توجد فيه كهرباء ولا ماء ولا طعام ولا غاز ولا وقود” بشكل كافٍ للمواطنين، ولست مضطراً لأن أبيع ما بحوزتي من أشياء لشراء الطعام، وفي النهاية لا يوجد حل للأزمات الاقتصادية والمعيشية في الأفق، وبات السفر هو الملاذ الآمن والوحيد بنظر السوريين، وليس أنا فقط”.
أسباب الازدحام
يقول حازم (38 عاماً)، من محافظة حمص وسط سوريا، وأحد مَن يرغبون في الهجرة “مع تردّي الأوضاع المعيشية وانعدام الخدمات الرئيسية للحياة في سوريا، باتت الهجرة هي الخيار الأوحد لدى السوريين، إما هجرة شبه نظامية محفوفة بشيء من المخاطر، أو هجرة غير نظامية تلفّها مخاطر جمة”.
أما عن الهجرة شبه النظامية، فهي التي دفعت إلى تشكيل الطوابير وحالات الازدحام أمام مباني الهجرة والجوازات في المحافظات السورية، للحصول على جوازات سفر تمكنهم من السفر براً إلى لبنان ومصر وليبيا، وجواً إلى دولة بيلاروسيا، ومن ثم براً إلى بولندا، بطرق غير شرعية، للوصول إلى إحدى الدول الأوربية، وهذا يتطلب من السوريين أن يكون بحوزتهم جواز سفر، وأتى ذلك بعد اتخاذ كل من تركيا واليونان إجراءات صارمة للحدّ من تدفق عبور اللاجئين إلى أوربا، عقب موجة الهجرة الواسعة التي شهدها البلدان في بدايات عام 2015. فكان سابقاً بإمكان السوريين عبور الحدود السورية التركية والدخول إلى تركيا، ومنها يهاجر إلى أي دولة أوروبية بدون جواز سفر أو أية وثائق رسمية.
تناقض بين التصريحات والواقع
ودعا مؤخراً وزير خارجية النظام السوري، فيصل المقداد، اللاجئين السوريين للعودة إلى البلاد، مع التأكيد أن الحكومة السورية ستقدم كل الضمانات والتسهيلات التي تضمن عودة آمنة وحياة مستقرة لهم، في حين لا تزال معظم المناطق التي هجّر منها اللاجئون مدمرة، ولا تصلها الخدمات الرئيسية كالكهرباء ومياه الشرب وإزالة مخلفات الحرب كالقنابل وبقايا الصواريخ، فضلاً عن حالة الفقر المدقع التي يعاني منها السوريون في الداخل.
وكانت أعلنت وزارة الداخلية في حكومة النظام السوري مؤخراً، عن إمكانية الحصول على جواز السفر السوري الفوري في مدة 24 ساعة، مقابل مبلغ مالي قدره 100 ألف ليرة سورية، وهو ما تزامن مع إطلاق نافذة الدور الإلكتروني للتسجيل على موعد الحصول على جواز السفر في محافظات دمشق وحلب والسويداء واللاذقية وحماة وحمص.
إلا أن كل تلك الإجراءات والقرارات لم تُطبق فعلياً في دوائر الهجرة والجوازات، ويستغل المتنفذون في دوائر الدولة مناصبهم لمساعدة الراغبين في الحصول على جوازات سفر مقابل مبالغ مادية قد تصل في كثير من الأحيان إلى نصف مليون ليرة سورية على جواز السفر الواحد، ما شكّل حالةً من الازدحام والطوابير.