لم يقدر للسعادة والألم، للشقاء والمجد، للعبقرية والجنون وغيرها من التناقضات، أن تجد ما يصهرها في بوتقة واحدة، كما هو الحال مع الفنانة المكسيكية الأشهر فريدا كاهلو. ولم يقدر من ناحية ثانية لعلاقة بين زوجين مبدعين، عدا استثناءات قليلة، أن تتسع لهذا الكم الهائل من المشاعر المتباينة إزاء الآخر، كما هو حال العلاقة التي جمعت فريدا بفنان الجداريات المكسيكي دييغو ريفيرا. وليس على المرء سوى أن يطلع على السيرة المطولة والمتميزة التي كتبتها الناقدة الأميركية هايدن هيريرا، أو على السيرة التي كتبها ريفيرا نفسه تحت عنوان «فني، حياتي»، وصولاً إلى الفيلم السينمائي المؤثر الذي أرخت به المخرجة الأميركية جوليا تيمور، لحياة فريدا، ليقف عن كثب على إحدى أكثر ملاحم القرن العشرين فرادة وثراء وتجسيداً لروح العصر وأسئلته ومفارقاته.
كانت فريدا كاهلو هي الابنة الثالثة للمصور المكسيكي غويليريو كاهلو، الذي كان قد أنجب ابنتيه الأوليين ماتيلدا وماريا من زواج سابق، فيما كانت كريستينا هي آخر حبات ذلك العنقود الأنثوي. لكن الحياة لم تكن عادلة بما يكفي لمنح تلك الطفلة اللماحة والدمثة، حصتها من السعادة الخالصة والمرح الخالي من الشوائب، ليس فقط لأنها أصيبت في السادسة من عمرها بنوع من شلل الأطفال جعلها تحمل على مدار حياتها عقدة الساق النحيلة والذابلة، بل لأن حادثة اصطدام مروعة بين حافلتها المدرسية وقطار كهربائي، أدت إلى أن يخترق جسمها من الخاصرة إلى الحوض قضيب من الفولاذ، خلخل حياتها من الجذور وقلبها رأساً على عقب.
على أن الثمن الباهظ الذي دفعته الشابة الطافحة بالحيوية بفعل الحادثة المشؤومة، لم يقتصر على الضرر الجسدي وحده، بل تعداه إلى جروح في الروح لم تأخذ طريقها إلى الاندمال، وإلى صدوع في القلب نجمت عن الانسحاب التدريجي لفتاها الوسيم أليخاندرو غوميس أرياس من حياتها، بذريعة خيانتها له مع مدربها على فن الحفر فيرناندو فيرناندث. والواقع أن السبب الفعلي لانهيار العلاقة كان مرتبطاً بواقعها الصحي المستجد، بحيث لم تنجح رسائل كاهلو المتتالية، ولا اعترافها له «أحبك حتى العبادة»، في تليين قلب المناضل الطلابي الشيوعي الذي لم يكتف بالابتعاد عنها، بل عمد إلى إقامة علاقة غرامية معلنة مع أقرب صديقاتها إليها. إلا أن الشابة المتقدة ذكاء، وذات الحجم الضئيل، لم تكتف باللجوء إلى الفن، كرد أخير على تعاظم آلامها، بل عمدت إلى رسم أعضائها التالفة، كنوع من الجراحة النفسية، وكبديل رمزي عما فقده جسمها من ليونة.
في تلك المرحلة الحرجة من حياتها، تتعرف فريدا كاهلو عن قرب إلى دييغو ريفيرا، الذي كانت قد التقته بشكل عرضي في مرحلة دراستها الإعدادية، فتشعر بحدسها الثاقب أن هذا الرجل الملقب لضخامته بـ«الفيل»، هو الذي سيساعد جروحها العاطفية والجسدية على الاندمال ويرسم لحياتها مساراً آخر.
والواقع أن ريفيرا المنفصل عن زوجته الروسية الجميلة لوبي مارين، أثناء دراسته الرسم في باريس، لم يكن يتمتع بأي قدر من الوسامة، ومع ذلك فقد كان يحظى بفعل موهبته الفنية الفذة، إضافة إلى طبعه المرح وبديهته السريعة، باهتمام نساء كثيرات رأين فيه جاذبية مغوية وسحراً يصعب تلافيه. غير أن فريدا المشعة جمالاً وذكاءً لم تأبه بماضي الرجل الضخم الذي كان معلقاً قبالتها على سقالة إحدى الجداريات الجصية، ولا بفارق السن بينهما الذي يبلغ العشرين عاماً، فنادته بجرأة لا مبالية: «دييغو، انزل من هناك. أنا لم آت إلى هنا من أجل اللهو، بل أنجزتُ بعض الرسوم وأريدك أن تتفحصها».
«احذر من هذه الفتاة، إنها الشيطان بعينه»، قال والدها لدييغو حين فاتحه هذ الأخير برغبته في الزواج منها. إلا أن الأب الذي كان يجتاز ضائقة مالية ويرغب بأن يساعده ريفيرا على تجاوزها أعطى موافقته على زواجهما اللاحق الذي تمت مراسمه عام 1929، ليدخل الطرفان بعد ذلك في خضم مغامرة شائكة، فيها من المسرات والنجاحات، بقدر ما فيها من العثرات وخيبات الأمل. أما زوجة دييغو السابقة لوبي مارين، التي أصرت دون دعوة على حضور حفل زفاف العريسين، فقد عمدت دون مقدمات، وكنوع من الثأر لكرامتها المجروحة، إلى الكشف عن ساقي العروس النحيلتين، لتصرخ في وجه المحتفلين بشكل هستيري «أترون هذين العودين؟ هاتان هما الساقان اللتان اختارهما دييغو بدلاً من ساقي»، قبل أن تخرج من الحفل وسط دهشة الحاضرين وذهولهم.
غير أن السعادة التي عرفها الطرفان في بداية الزواج سرعان ما نغصها التفاقم المطرد لوضع الزوجة الصحي، التي كانت قد تعرضت في مطالع الصبا لحادثة اصطدام مروعة لم تقتصر نتائجها الكارثية على عمودها الفقري وحده، بل أفضت فيما بعد إلى حرمانها من الإنجاب. على أن الزوجين المتقدين موهبة، اللذين وجدا في مزاولة الرسم ما يخفف عن كاهليهما وطأة الكثير من الخسارات، انخرطا في الوقت ذاته بالعمل السياسي، حيث اختارت فريدا أن تنضم إلى ريفيرا الذي كان يحتل موقعاً قيادياً في الحزب الشيوعي المكسيكي، قبل أن تتم إزاحته من موقعه بحجة أنه يجير موهبته الفنية لممالأة الإمبريالية العالمية ووكلائها المحليين.
لم يكن دييغو ريفيرا، وقد أصبح الفنان الأكثر حضوراً في وجدان المكسيكيين، من النوع الذي يقبل الرضوخ للضغط والابتزاز. لذلك فقد قرر بما يشبه التحدي تثبيت التهم الموجهة إليه، عبر السفر مع زوجته إلى سان فرنسيسكو، ومن ثم إلى نيويورك ليعرض لوحاته في متحف الفن الحديث، قبل التوجه إلى ديترويت بدعوة من الصناعي الشهير هنري فورد ليرسم بالزيت «قصة العِرْق الجديد لعصر الفولاذ». وحيث كان على فريدا أن تفقد مجدداً طفلها الثاني، بسبب وهنها الجسدي، راحت ترسم بنوع من الفانتازيا المثلومة بالحسرة، أسراباً من الأجنة السابحين في مياه عمياء أو سماء عاقر. فيما راحت من ناحية أخرى تتعلق بالدمى كبديل عن الأطفال، وبالأزهار والنباتات كبديل عن الخصوبة المفقودة.
ولم يكن الموقف المتباين من الإنجاب، الذي لم يكن دييغو يكترث له، هو وحده الذي بدأ يهدد العلاقة بين الزوجين. لكن الضربة الأكثر إيلاماً التي سددها الزوج إلى قلب زوجته المريضة، هي التي نجمت عن العلاقة الغرامية المشبوبة التي أقامها الزوج مع كريستينا، شقيقة فريدا الصغرى، وهو ما دفعها إلى نوع من الرد الثأري المزدوج على ريفيرا، سواء عبر رسومها القاسية التي تكشف عن جراحها الجسدية والروحية المفتوحة، أو عبر مبادلتها الغدر بالغدر والخيانة بالخيانة. وحيث لم يكن دييغو يبدي أي تذمر يُذكر إزاء النزوع المثلي لزوجته المتعطشة إلى المتع الحسية، فهو لم يكن متساهلاً أبداً إزاء علاقتها بالرجال، بحيث لم يتوان عن إشهار مسدسه في وجه النحات المكسيكي إيسامونوغوتشي، مهدداً إياه بالقتل إذا لم يقطع علاقته بفريدا بشكل فوري. أما ليون تروتسكي الهارب من بطش ستالين، الذي سهل له دييغو سبل قدومه إلى المكسيك وقدم له منزلاً للإقامة، فقد وجدت كاهلو فيه الهدية السماوية النموذجية التي يمكن لها بواسطتها أن تحقق انتقامها الحاسم من خيانة الزوج. وسرعان ما وقع مؤسس «الأممية الرابعة» الخمسيني في شرك الفنانة الثلاثينية المغوية، غير أن خوف حراسه ورجاله الأقربين من فضيحة عالمية مدوية تطال سمعة زعيمهم، وخوف فريدا من رد زوجها المزلزل فيما لو عرف بالأمر، هو الذي أخمد العلاقة في مهدها خلال أسابيع.
لم تكن للعلاقة بين الزوجين بالمقابل أن تعرف طريقها إلى الاستقرار والسكينة الوادعة. لذلك وجدت فريدا في دعوتها إلى نيويورك لإقامة معرض لها هناك، الفرصة المؤاتية للابتعاد قليلاً عن مسرح زواجها المهدد، قبل أن تحصل على طلاقها من ريفيرا بعد فترة من الزمن. وإذ تقع خلال رحلتها الأميركية في غرام المصور الهنغاري نيكولاس موراي، ما تلبث أن تنتقل إلى باريس ليتحلق من حولها فنانو العالم الكبار وكتابه، من أمثال إيلوار وخوان ميرو وماكس إرنست، فضلاً عن أندريه بريتون الذي استوقفتها قذارة مظهره وسلوكه إلى حد نعته بالصرصور العجوز. وحين ألح على إلحاقها بالسورياليين ردت عليه بالقول «أنا لست سوريالية، فأنا لم أرسم أحلامي بل رسمت ما أنا عليه». أما بابلو بيكاسو الذي وقف حائراً إزاء موهبتها البرية، كما إزاء عينيها الفاتنتين، فقد سبق له أن قال مخاطباً زوجها لدى لقائه بهما في باريس «هاتان العينان الرائعتان، لا أنا ولا أنت قادران أن نصنع مثيلاً لهما يا صديقي».
حين شج عميل المخابرات السوفياتية رامون ميركادير، رأس تروتسكي بالفأس، كانت علاقة دييغو بضيفه الاستثنائي قد انقطعت تماماً، لا لخلافات عقائدية فحسب، بل لأن الكثيرين يردون ذلك إلى معرفة الزوج الأكيدة بالطعنة التي سددها إلى ظهره صاحب «الثورة الدائمة». لذلك لم يجد ريفيرا بداً من الهرب إلى سان فرنسيسكو إثر اتهامه من قبل البعض بالضلوع في مؤامرة الاغتيال، وقبل أن يُعثر فيما بعد على قاتله الحقيقي. وربما كان للصعوبات التي واجهها الزوجان أثناء انفصالهما لعامين كاملين، أبلغ الأثر في عودة مياه العلاقة إلى مجاريها، بعد أن اكتشف كل منهما حاجته الملحة إلى الآخر، مسلماً وراضياً بحصته من النزق والفوضى الملازمين لكل إبداع خلاق. ولم يكن من المستغرب تبعاً لذلك أن كاهلو التي وصفت ريفيرا بـ«المتهتك الذي لن يكون زوج أحد من النساء»، هي نفسها التي عبرت في مناسبة أخرى عن رغبتها في أن تلده مرة أخرى.
ولا بالمُستغرب أيضاً أن يوسع دييغو دائرة نزواته أبعد من حدود سريره الزوجي، فيما لا يتوانى في معرض حديثه عن زوجته عن الإقرار «لو أنني فارقتُ الحياة دون أن أعرفها، كنت سأموت من دون معرفتي بالمرأة الحقيقية».
ومع ذلك فقد كان القدر ينصب للفنانة الألصق بروح شعبها وتراثه، كمينه الأكثر خطورة، بحيث لم تفلح العمليات الجراحية المتلاحقة إلا في إلحاق المزيد من التلف بعمودها الفقري، وبسائر أجزاء هيكلها العظمي. صحيح أنها عملت جاهدة لكي تستعيض برسومها المدهشة عن كل ما لحق بجسمها من صدوع، وباتت الاسم الأكثر لمعاناً في فضاء الفن المكسيكي، إلا أن الغرغرينا التي بدأت تنهش أطرافها بلا رحمة، والتي أدت إلى بتر قدمها اليمنى، حولت المسافة القصيرة التي تفصلها عن رحيلها النهائي عام 1954 إلى برزخ قاتم من الكوابيس والمكابدات.
وإذا لم يكن الوفاء الجسدي هو الذي وفر للعلاقة الزوجية بين فريدا كاهلو ودييغو ريفيرا، الملاءة اللازمة لإبعاد العلاقة عن دائرة الخطر، فإن المغامرات الخيانية التي اقترفاها بالتساوي، والتي تذكرنا بالمغامرات المماثلة لجان بول سارتر وسيمون دي بوفوار، ظلت ملازمة للسطوح الظاهرة من جسديهما المترعين بالنزق.
أما في الأعماق الأخيرة للأواصر، فقد جمعهما كل شيء آخر، بدءاً من الكيمياء الشخصية والافتتان المتبادل والشغف بالحياة، مروراً بالانتماء العقائدي والرؤية إلى العالم، ووصولاً إلى احترام كل منهما لعبقرية الآخر ومنجزه الإبداعي. أما فريدا التي أوصت بإحراق جثمانها بعد الموت، فكانت تعبر بصدق عن رغبتها في أن يتحول الرماد الذي يظل منها، إلى جزء لا يتجزأ من دورة الحياة والموت، في بلدها الذي يأخذ سكانه الأصليون بفكرة الاتحاد الكلي بين الإنسان والطبيعة. وحيث لم تكن فريدا بعيدة عن ذلك التصور، فقد كان يسعدها دائماً أن ترسم نفسها على صورة غزالة مكسيكية شاردة، ومترنحة أبداً على حبال الجناس الناقص بين العذوبة والعذاب، كما بين جحيم الواقع وجنة الرغبات، وهي التي عثرت على ما يشبهها تماماً في أبيات مواطنتها الشاعرة جوانا إينيث لا كروث التي تقول:
إذا رأيتَ الغزال الجريح
الذي يهبط السفح مسرعاً
ومفتشاً، وهو المصاب
بسهم قاتل،
في الجدول البارد كالجليد،
عما يخفف من أذاه،
فلا تظنن أنه يعكس
صورتي في الراحة
بل صورتي في الألم.